رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

منذ بدايات القرن الحادي عشر وحتي يومنا هذا والعرب في حالة من الاغتراب الحضاري والعزلة التي أخذتهم بعيداً عن تيارات الزمن وألقت بهم بعيداً في جب من الظلمة والانغلاق، وأكاد أجزم أنهم لم يبرحوا مكان عزلتهم هذا حتى اللحظة.. وبعد قرابة الألف عام من خصومة العقل تظل الثقافة العربية مجرد وجه قد يكتسب لون القشرة الحضارية ولكن تظل الروح – كما يقول نزار قباني – جاهلية.. ورغم أن الفرصة الحضارية قد واتتنا في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر والشام فلم تدم أكثر من ثلاث سنوات 1798 – 1801، إلا أن قروناً من العزلة والتمترس خلف أسوار من الجهل والانغلاق والتحجر داخل علوم الموتى بقيت كفيلة بوأد أي محاولة للتحرر والنهضة، وفي الذاكرة اليوم تتبدي أفكار وأصوات رموز التنوير ابتداء من الطهطاوي ومحمد عبده مروراً بقاسم أمين وطه حسين ولطفي السيد وصولاً إلى الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، كما لو كانت كلها أحلاماً قصيرة تائهة هائمة على وجهها في ظلمة ليل طويل بلا فجر.. ماذا حدث لنا ولماذا حل بنا ما حل من أحوال مذرية جعلتنا كعرب بهذه الضآلة أمام أنفسنا وأمام الآخر؟

فترة النور والتنوير التي عاشتها الدولة العباسية في عصرها الأول (132 – 232 هجرية) تبلورت بفضل الانفتاح على ثقافات وحضارات جديدة اختلط بها العرب مع الفتوحات الإسلامية، وكانت الذاكرة العربية على ما يبدو آنذاك تشبه فضاء الصحراء التي انطلقت منها حملات الفتوحات والقابلة لأن تؤسس فوقها كل جديد وكان جميلاً ورائعاً أن يشجع الخلفاء حركة الترجمة ويؤسس الخليفة المأمون بيت الحكمة ويجزل العطاء للمترجمين، بل إن بعض الخلفاء كانوا يبادلون أسراهم بالكتب من البيزنطيين مما ساعد على ترسيخ مناخ غير مسبوق من حرية الفكر وهو المناخ الطبيعي لتعميق ثقافة التسامح، ومع امتداد رقعة الدولة الإسلامية امتزجت الذاكرة العربية بالحضارات الجديدة عليها كالصينية والفارسية والهندية – شرقاً – والبيزنطية والرومانية – غرباً – ومن اللافت أن الرسول الكريم – صلي الله عليه وسلم – دعا إلى طلب العلم ولو كان في الصين مما يشير – بل يؤكد – أنه لا مانع من الأخذ بعلوم الآخرين ومعلوم أن الصينيين لم يكن لديهم علوم شرعية مما يجعل القصد من الأخذ منهم وعنهم محصوراً في العلوم التي تفيد المسلمين في دنياهم وبالفعل نقل العرب عن الحضارات الشرقية نظرية الأعداد من الهند والورق والطباعة والبوصلة والبارود من الصين.. كان إقبال العرب على العلوم الحديثة في ذلك الزمان يتم بنهم عجيب وكان اللافت تسامحهم الكبير مع كل الأجناس والأقوام التي اختلطوا بها، ويقول الباحث كاب كوبي في مؤلفة إبداعات النار (عالم المعرفة، الكويت، عدد 266): «كان المسلمون مفعمين بالحياة أنقياء. وكانوا أناساً تواقين متحمسين للفكر. وتتطلب الديانة الإسلامية من الأشخاص أن يفهموا القرآن من أجل أنفسهم. لذلك فإن معرفة القراءة والكتابة كانت منتشرة على عكس الكنيسة الرومانية المسيحية التي اعتمدت على فهم الإنجيل بواسطة رؤساء الكنيسة, وقد ترجم هذا التشديد على القراءة والكتابة إلى الاهتمام بكل صنوف الفكر». وفي موضع آخر يقول: «بدأ العرب باستيعاب وخزن معارف الأمم التي أصبحت تابعة لهم. وأصبحت بغداد المركز الفكري المتقدم لأوروبا وآسيا وأفريقيا. وقد قامت باستضافة المتعلمين من جميع الأنحاء ليقوموا بالتعليم في البلاطات العربية. وكان ضمن هؤلاء علماء هندوس وأطباء وكتبة. ولأن الهند كانت تتبادل إلى حد ما مع الصين فإن الاتصال بالمعرفة الهندية كان يعني الاتصال بالمعرفة الصينية».

مائة عام ذهبية في تاريخ العرب بدأت مع العصر العباسي الأول انتهت مع توابعها تقريباً بعد مواجهتين كونيتين بين المسلمين والصليبيين في نهاية القرن الحادي عشر (1099 ميلادية) وبينهم وبين التتار في منتصف القرن الثالث عشر (1258 ميلادية) الذي حدث أن الستار التاريخي لم يسدل فقط على هاتين المواجهتين وإنما – وهذا هو الخطر – وقد أسدل على العقل العربي الذي بدلاً عن أن ينتشي علميا وثقافيا بقدرته على المواجهة ودحر الغزاة بني لنفسه قبراً مظلماً دخله منذ ذلك الحين ولم يبرحه حتي اللحظة حيث انصرف الناس عن العلوم العقلية والدنيوية إلى العلوم الشرعية واللغوية وبدلاً عن أن يحيط الحكام أنفسهم بالعلماء والعقلاء ويستمرون في تشجيع العقل على الانفتاح والترجمة واستقبال فيض الحضارات الإنسانية، أحاطوا أنفسهم بعسكر مدججين بالسلاح يضمنون لهم الولاء وبرجال دين مدججين بأسلحة الماضي التي تضمن لهم البقاء.

ومن الغريب أنه ترسخ في العقل الجمعي العربي أن الإلمام بالعلوم الشرعية أصبح فرض عين أما العلوم الدنيوية فباتت فرض كفاية والخطير هنا أن هذا التحول قد انعكس على الثقافة الجمعية العربية بحيث أضحي الناس على مدى عشرة قرون يتحكم بهم وبأحوالهم وطرق تفكيرهم وأنماط معيشتهم ثقافة الموت والفناء والخنوع والتسليم حتى بالظلم باعتبار كل شيء قدراً محتوماً، أما العلم الدنيوي فإنه من النوافل التي يمكن الأخذ بها أو الإعراض عنها، مصيبتنا أننا ونحن نعايش زمنيا أمم القرن الحادي والعشرين بكل علومه وصور تقدمه نعيش فعليا داخل طبقة جيولوجية قديمة مستقرة بكهوف ذاكرتنا بدأت في التشكل بعد الغزو الصليبي والمغولي قبل ما يقارب الألف عام وحتي يومنا هذا، طبقة ترسبت بها ملوحة الجمود والتخلف ورفض العلم التجريبي مقابل العلم الشرعي – رفض علوم الحياة لصالح علوم الموت – رفض النور مقابل الظلمة – رفض روح التحرر مقابل روح العبودية – رفض جرأة الاكتشافات مقابل ذل المسلمات – رفض سمو العقل مقابل عشوائية النقل.. ولكي نخرج من الكهف فتلك قصة أخري.