رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

شاهدت قبل أيام فيلم "هرتلة في القاهرة"، وتوقفت طويلًا أمام العنوان قبل أن أدخل إلى العالم الذي يقترحه الفيلم، وتوقفت عند كلمة "هرتلة" تحديدًا، بما تحمله في الوجدان الشعبي المصري من دلالات قد تبدو قاسية أحيانًا، ومشحونة بسخرية غير بريئة.. هل نحن أمام إهانة للقاهرة؟ هل العنوان توصيف متعالٍ لمدينة وأهلها؟ أم أن ما تقصده مؤلفته ومخرجته فرح الهاشم أعمق من مجرد كلمة صادمة تُستخدم للفت الانتباه؟
هذا السؤال لم يكن منفصلًا عن تجربتي مع الفيلم، بل كان بوابتها الأولى، فــ"الهرتلة" هنا لا تأتي بوصفها حكمًا، بل كمفتاح قراءة، ليست اتهامًا بقدر ما هي محاولة لفهم حالة إنسانية كاملة: كلام كثير، مشاعر متداخلة، حياة تُعاش على عجل، ومدينة لا تمنح ساكنيها وقتًا كافيًا لترتيب أفكارهم أو أحلامهم.. ومع تقدم المشاهدة، يتضح أن فرح الهاشم لا تنظر إلى القاهرة من علٍ، ولا تتعامل معها كموضوع للسخرية أو المساءلة، بل تقترب منها بحس إنساني واضح، يحاول التقاط نبضها كما هو، بتناقضاته وارتباكه وفوضاه التي قد تبدو منفّرة أحيانًا، لكنها في العمق شديدة الصدق.
من هذه النقطة تحديدًا يبدأ الفيلم في الكشف عن طبيعته الحقيقية، فرغم حواريته الظاهرة، يتضمن "هرتلة في القاهرة" مقاطع تأملية وفلسفية تعكس تفكير المخرجة العميق، ورؤيتها للمدينة بوصفها نظامًا معقدًا من الذكريات والقصص الإنسانية، وليس مجرد مكان يُسكن، بل كائن حيّ يُعاش ويُختبَر.. القاهرة هنا ليست خلفية للأحداث، بل شخصية رئيسية، حاضرة بثقلها، بصوتها، وبقدرتها الدائمة على التأثير في من يعيش داخلها.
يعتمد الفيلم على حوارات تبدو عفوية، كأنها التُقطت في لحظة ارتجال، لكنها في الحقيقة محمّلة بدلالات إنسانية واضحة.. أشخاص عاديون، وجوه مألوفة، وأصوات تشبهنا، غير أن الكاميرا لا تكتفي بتسجيل ما يُقال، بل تنصت لما وراء الكلام، للصمت، للتردد، للنظرة الشاردة، وللجملة التي تُقال على سبيل المزاح لكنها تخفي تعبًا حقيقيًا.. هنا تتحول الحواريات إلى مادة تأملية، تكشف علاقة الإنسان بالمكان، وكيف تعيد المدينة تشكيل وعيه وذاكرته، من دون أن ينتبه.
"الهرتلة" في العنوان ليست وصفًا للفوضى بقدر ما هي توصيف لحالة عيش، هرتلة الكلام، هرتلة المشاعر، وهرتلة الحياة اليومية في مدينة لا تعرف التوقف، ومن خلال هذا التفكك الظاهري، تنجح فرح الهاشم في الإمساك بجوهر القاهرة تلك المدينة التي لا تُفهم من النظرة الأولى، ولا تُختصر في حكاية واحدة، بل تُعرف عبر التراكم، وعبر الاحتكاك، وعبر التفاصيل الصغيرة التي تبدو عابرة لكنها تصنع المعنى الحقيقي للحياة.
سينمائيًا، يتعامل الفيلم مع الكاميرا بوصفها عينًا متجولة لا تحاكم ولا تفسر، بل تراقب وتترك للمشاهد مساحة للتفكير، فالإيقاع هادئ في ظاهره، لكنه مشحون داخليًا، والمونتاج لا يسعى إلى خلق ذروة درامية تقليدية، بل يعتمد على التراكم الشعوري، وعلى الانتقال السلس بين الأمكنة والأزمنة، كما أن الأبيض والأسود لا يأتي كحنين سطحي للماضي، بل كاستدعاء لذاكرة جمعية ما زالت حاضرة في الوجدان، تتجاور مع لقطات ملونة للمدينة الراهنة، في تداخل زمني يعكس ارتباك الوعي نفسه.
ولا يمكن فصل تجربة الفيلم عن أزمته مع العرض والرقابة، فالصعوبات التي واجهها "هرتلة في القاهرة" في طريقه إلى الشاشة، ثم لجوء صُنّاعه إلى عرضه عبر المنصات الرقمية، تبدو وكأنها امتداد طبيعي لفكرة الفيلم ذاتها.. هرتلة في المسار، هرتلة في القواعد، وهرتلة في العلاقة بين السينما المستقلة والمؤسسات الرسمية، وكأن الفيلم، حتى خارج شاشته، يواصل طرح سؤاله الأساسي: كيف يمكن لصوت مختلف أن يجد طريقه وسط نظام لا يحب الفوضى، لكنه يعيش عليها؟
هذا البعد لا يُضاف إلى الفيلم من خارجه، بل يتماهى مع روحه، فكما تتحدث شخصياته عن حياتها اليومية بلا ادعاء، يخوض الفيلم تجربته الإنتاجية والعرضية بالمنطق نفسه: صدق، واحتكاك مباشر بالواقع، ومحاولة للوصول إلى المتلقي دون وسائط تقليدية، وهنا تتحول السينما إلى فعل مقاومة ناعمة، لا تصرخ، لكنها تُصرّ على الوجود.
"هرتلة في القاهرة" لا يقدم خطابًا سياسيًا مباشرًا، لكنه عمل سياسي بمعناه الإنساني العميق؛ لأنه ينحاز للناس، لأصواتهم الصغيرة، ولمساحات التعب والارتباك التي يعيشونها، هو فيلم عن مدينة تُرهق ساكنيها بقدر ما تمنحهم أسبابًا غامضة للتعلّق بها، عن القاهرة التي لا تُحتمل أحيانًا، ولا يمكن مغادرتها في الوقت نفسه.
في النهاية، لا يسعى الفيلم إلى تقديم إجابات نهائية، بل يترك المشاهد أمام أسئلته الخاصة: كيف نعيش في مدينة لا تهدأ؟ كيف نصنع معنى وسط الفوضى؟ وهل "الهرتلة" قدرٌ مفروض، أم آلية بقاء؟ وربما هنا تكمن قوة الفيلم الحقيقية؛ في كونه رسالة حب غير مثالية للقاهرة، حب يرى القسوة ولا ينكرها، ويعترف بالتعب دون أن يتخلى عن الإنسان بوصفه القيمة الأولى والأخيرة.