مراجعات
عندما نعيش في زمنٍ تتبدَّل فيه الأقنعة، يُطِلُّ طمع الإنسان كظلٍّ ممتدٍ لا يفارقه.. يلازم خطواته، ويكبر معه، كلما طُمِسَت فِطرته وضاقت بصيرته واتسع جشعه، ليمد يده إلى ما ليس له، غير آبهٍ بنداء ضميره، أو بوجع مَن سُلب حقه.
لذلك، هناك لحظات فارقة، يختبر فيها الإنسان معدنه وجوهره ـ حتى يكون إنسانًا ـ فيكون أمام خيارَيْن حاسمَيْن، إما أن يرتفع بعدله، أو يهوي بطمعه، إلى دركاتٍ من العار، لا يليق به أن يُقيم فيها.
لا شك أن الطمع خطيئة، ولا يكون وليد اللحظة، بل مَيْلٌ خفيٌّ في النفوس، إن تُرك دون تهذيب، أصبح شهوة عارمة، تُغشي القلب، وتُعطل ميزان العدل الفطري، وجريمة تُطفئ نور المروءة، لتزرع شقوقًا يصعب ردمها، مهما طال الزمن!
لعل من أشد مظاهر الطمع قسوة، وأبعدها عن الإنسانية، أكْلُ أموال الناس بالباطل، ولذلك، كم من أيدٍ امتدت إلى ما ليس لها.. لا يُحركها الاحتياج، بل الجشع، فتسلب حقَّ ضعيف، أو تستحلَّ معاناة محتاج، أو تلتَفَّ على رزقٍ لا تستحقه!
إذن، ما أشد فداحة الظلم، حين يكون في دائرة القرابة والرحم، خصوصًا في الميراث، الذي جعله الله قسمة عادلة، لا تحتمل تأويلًا ولا تحريفًا، لنجد مَن أعمتهم شهوة الاستئثار، فيزعمون أن المال يستجيب فقط لمن هو أقوى صوتًا أو أشد بأسًا!
كما يمكننا القول إن الفقر ـ أحيانًا ـ ليس ما يدفعُ إلى هذا الانحراف، بل الجشع والطمع، لأن الميراث حقٌّ أصيل، لا يُمنح تفضُّلًا من أحد، بل هو نصيبٌ مُقَدَّرٌ، تتعلّق به أقدار ومصائر، وقد يرتبط بحياة كاملة يترقبُ أصحابها ما يسندهم ويُخَفف عنهم عبءَ الأيام.
يقينًا، الظلم بين الغرباء مؤلم، غير أنه بين ذوي القربى أشد مرارة، لأنه يشق الوِحدة، ويزرع في القلوب غصَّة ومرارة لا يُداويها الزمن بسهولة، ولذلك حين يُحرَم الإنسان من إرثه، فهو لا يُحرَم مالًا فحسب، بل يُحرَم كرامة، ويُجرح في صميم عدالةٍ، كان يظن أنها مأمونة في أقرب الناس إليه.
إن المجتمعات لا تنهار فجأة، بل تتآكل من داخلها حين تتفشَّى الرذائل في السلوك، أو تُصبح حقوق الآخرين غنيمةَ، بدل أن تكون أمانة تُصَان، ولذلك فإن الطمع لا يقف عند حدِّ المال؛ إذ يدفع صاحبه إلى سلسلة من التبريرات الزائفة، ليقنع نفسه أنه الأحق، وأن الآخرين أقل استحقاقًا.. وكأن العدالة تُقاس بالرغبات لا بالقِيَم!
أخيرًا.. «العالم يتسع للجميع، لكن قلوب الناس لا يسعها إلا ما زُرِع فيها من عدلٍ ورحمة»، كما يقول «المهاتما غاندي»، فما قيمة مالٍ جُمع بالباطل، إذا خَلَّفَ وراءه دعاء مظلومٍ أو قطيعة أرحام، ثم ما جدوى الثراء إن كان ثمنه كسرُ قلوبٍ ونَهْبُ حقوقٍ؟
فصل الخطاب:
يقول الله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ».