«فوران» فى الحى القديم
شقق قديمة وحد أدنى يفوق الخيال مع الزيادات غير المفهومة
وحش الغلاء ينهش المستأجر ما بين «متميز» و«متوسط» و«اقتصادى»
فى صباح هادئ من نوفمبر، وبينما كانت الجيزة تستيقظ على حركة شوارعها المعتادة، تابع مئات السكان حدثًا لم يكن عاديًا بالنسبة لهم، وهو الإعلان الرسمى عن انتهاء لجان الحصر من تحديد وتصنيف المناطق الخاضعة لقانون الإيجار القديم الجديد، لم يكن الأمر مجرد قرار حكومى يُنشر فى الجريدة الرسمية، بل كان حدثًا يمس تفاصيل حياة آلاف الأسر التى عاشت لعقود طويلة تحت مظلة نظام إيجارى مختلف تمامًا عمّا يُراد تطبيقه اليوم.
فى المقاهى الشعبية وعلى السلالم القديمة التى اعتادت أن تكون مجالس مفتوحة للجيران، وفى مجموعات واتساب التى تحولت إلى ساحات نقاش يومية، بدأ المواطنون يتبادلون خرائط وصورًا ويقارنون بين تصنيف منطقة وأخرى.
البعض يتابع الأمر بفضول، آخرون بقلق واضح، بينما هناك من شعر بأن التغيير يقترب بسرعة أكبر مما توقع. فجأة أصبحت كلمات مثل «متميز» و«متوسط» و«اقتصادي» ليست مجرد توصيف لمستوى حى، بل مصطلحات تحمل معها أرقامًا جديدة وحسابات مرهقة وعبئًا ماليًا لم يكن ضمن توقعات كثير من الأسر.
كنز الجدران
وسط هذا المشهد يخرج محمود من بولاق الدكرور محتجًا قائلًا: «إحنا بقينا متميزين فجأة؟ دا حتى الشارع مش متسوّي!» بينما يجلس أبو الدهب فوق درج مبنى قديم فى إمبابة متسائلًا: «إزاى حد أدنى ألف جنيه لشقة عمرها 70 سنة؟»، أما عصام فيقف أمام لوحة إعلانات الحى محاولًا فهم معنى كلمة «تصنيف» ويقول بنبرة ضياع حقيقي: «يعنى إيه أضرب الإيجار ×20؟ يعنى هقعد ولا هدور؟»، هذا الارتباك والقلق كان علامة واضحة على التحديات التى يواجهها السكان بعد التصنيف الجديد، وهو ما يوضح فجوة كبيرة بين القانون والواقع اليومى للمواطنين.
فى شارع ناهيا ببولاق الدكرور، كان محمود عبدالجليل، 48 عامًا، يقف أمام محل العصير الصغير الذى يمتلكه منذ عشرين عامًا. ملامحه المتعبة تكشف حجم الضغط الذى يعيش فيه منذ إعلان تصنيف بعض شوارع بولاق كمناطق «متميزة».
يرفع «عبدالجليل» كراسة الإيجار القديمة التى اصفرّت أطرافها ويقول: «يا بيه.. أنا ساكن هنا من سنة 1999، عمرنا ما كنا متميزين، فجأة الشارع بقى درجة أولى، والرصيف أصلًا مكسور، يعنى هدفع 20 ضعف وأنا لسه بدوّر على مكان أحط فيه رجلّي؟»، شقته المكونة من غرفتين وصالة كانت تُدفع بـ120 جنيهًا واليوم ستصل إلى أرقام يصعب تحملها، يضيف: «أنا عندى أربع أولاد.. هاجيب منين؟ لا الشقة متناسبة مع الحد الأدنى الجديد ولا الدخل يستحمل».
على بعد كيلومترات قليلة، فى إمبابة، يجلس الحاج أبو الدهب كامل، 62 سنة، على درجات مبنى قديم يعود إلى ستينات القرن الماضى، يتحسس بيده سور السلم المتصدع ويقول مبتسمًا ضحكة باهتة: «شقتى دى من يوم ما اتجوزت وأنا فيها.. أكتر من 40 سنة. الجيران بقوا عيلتى، وفجأة قالوا لى ادفع ألف جنيه حد أدنى! ألف جنيه يا عالم؟ دا أنا لسه بصلّح الماسورة اللى واقفة على كلمة»، ثم يضيف: «الشقة كانت بـ85 جنيه.. أضربها ×20؟ يعنى هدفع إيجار أكتر من معاشى، طب أروح فين؟».
أضعاف خيالية
فى عزبة الهجانة تجلس سلمى نجيب، 35 عامًا، مدرسة لغة عربية، داخل شقتها الصغيرة المطلة على شارع ضيق بالكاد تمر فيه السيارات، شقتها جاءت ضمن «المناطق المتوسطة»، رغم أنها ترى أن التصنيف لا يعكس الواقع. تقول وهى ترتب ملفات المدرسة: «اللى قالوا عليه فى المعايير مش موجود عندنا، العمارة قديمة، الشارع ضيق، المرافق بتقطع، أمى ساكنة معايا.. مش هقدر أدفع 10 أضعاف، أنا موظفة وعندى عيال. فين العدالة؟»، وتستعيد اللحظة التى مرت فيها لجنة الحصر أمام العمارة دون أن تصعد: «لما سألتهم قالوا: (المعاينة من برّه كفاية)، طب من برّه العمارة شكلها مضبوط.. من جوّه بتطلب صيانة».
أما عصام رجب، موظف أرشيف فى مستشفى حكومى، فيقف أمام لوحة إعلانات حى العمرانية كما لو كان يقرأ لغة غير مفهومة ويقول: «يعنى إيه أضرب الإيجار ×20؟ يعنى هافضل أدفع لحد إمتى؟»، شقته غرفة وصالة تحت السلم، كانت بـ65 جنيهًا فقط، ومع الزيادات أصبح عبء ماليًا كبيرًا، ويضيف: «أنا مش ضد التطوير.. بس ضد الظلم. ليه شقة صغيرة زى اللى فى الزمالك؟».
فى حى إمبروزو، تقف أمينة سعيد، 42 عامًا، أمام باب شقتها المتهالك تقول بمرارة: «أنا ساكنة هنا من 1980.. كل جيرانى صاروا عائلتى، فجأة شقتنا صارت منطقة متميزة والحد الأدنى 950 جنيه، وأنا مرتبى 2800! دا حرام.. هاعمل إيه؟»، تمسك بكراسة الإيجار القديمة وتضربها بيدها الصغيرة على الطاولة، كأنها تبحث عن إجابة غير موجودة، وفى قلبها خوف من أن يطردها القانون من بيتها بعد سنوات طويلة من التضحيات. أطفالها الأربعة يركضون حولها بينما هى تحاول ترتيب الأفكار، تقول: «الشارع ضيق، الكهرباء بتقطع، المياه ساعات مش شغالة.. واللجنة قالت ممتازة».
حكايات مؤلمة
فى منطقة الوراق، يجلس حسن شوقى، 55 عامًا، عامل نجارة، على درج ورشة صغيرة خلف بيته، يلوح بورقة تصنيف اللجنة أمامه ويهز رأسه: «أنا اللى عايش 50 سنة فى البيت دا، فجأة مبقاش لى حق أستمر بنفس الإيجار القديم.. هادفع 1200 جنيه شهريًا وأنا معاشى كله 1500! دى مش عدالة، دا عبء كبير على أى حد»، ينظر إلى الجيران الذين تجمعوا حوله، ووجوههم تحمل مزيجًا من الغضب والارتباك، ويضيف: «اللى اتبنى جديد يبقى متميز.. إحنا لسة شققنا محتاجة ترميم، حد يفهمهم؟».
أما فى حى كرداسة، فتجلس فاطمة مرسى، 37 عامًا، مع أطفالها الثلاثة فى شقة صغيرة بلا مصعد، تنظر من نافذة المطبخ إلى الشارع المليء بالحجارة والرمال، تقول بحزن: «أول مرة أحس إن القانون بيبعدنى عن بيتى. شقتنا 70 متر بس، مصنفة مناطق متميزة والحد الأدنى 1000 جنيه، وأنا موظفة نصف يوم، هاعمل إيه؟» تتوقف عن الكلام للحظة ثم تضيف: «أمى مسنة، مش هقدر أسيبها… دا إحنا هنا عايشين حياتنا من غير أى مساعدة».
وفى حى الدقى، يجلس سامى ناصر، 50 عامًا، طبيب متقاعد، أمام شقته القديمة التى كانت إيجارها 200 جنيه، الآن الحد الأدنى 1800 جنيه، يقول متأثرًا: «المنطق مش موجود.. شقتى ضيقة، ما فيهاش مرافق كويسة، بسهمونى ممتازة؟ دا القانون عمل مننا أرقام مش بشر». ينظر إلى أوراق اللجنة ويهز رأسه ببطء: «اللى ساكنين طول عمرهم هنا، عايشين بكرامة، فجأة بقينا أرقام على ورقة. الموضوع مش بس فلوس، دا كرامة وحياة».
أما فى حى العمرانية الجديدة، يقف مصطفى على، 29 عامًا، عامل فى محل حلاقة، أمام شقته القديمة المكونة من غرفة وصالة، يشرح بحزن شديد: «أنا لسه متخرج، لسه بدور على شغل أحسن… فجأة شقتى صارت متميزة والحد الأدنى 900 جنيه! إزاى أقدر أدفع وأعيش؟» يتوقف قليلًا ثم يضيف: «اللى ساكنين هنا أجيال، فجأة احنا ضايعين… القانون لازم يكون عادل، مش يضغط على الناس».
فجوة بين النظرى والواقعي
تعود الحكاية إلى لحظة إعلان محافظة الجيزة انتهاء لجان الحصر والتصنيف من فرز وتحديد المناطق الخاضعة لقانون الإيجار القديم رقم 164 لسنة 2025، ومع نشر القرار فى الجريدة الرسمية يوم 10 نوفمبر 2025 بدأت الأسئلة تتوالى عن آليات التصنيف. تشكّلت اللجان من رئيس الحى أو المركز ونواب ومسؤولى التنظيم والهندسة والأملاك والتخطيط العمرانى والشؤون القانونية والمتابعة وممثلى الضرائب العقارية وشركات المرافق بالإضافة إلى خبراء إضافيين عند الحاجة.
واعتمدت اللجان على عدة معايير أهمها الموقع الجغرافى وطبيعة الشوارع وحالة البناء ومواد التشييد ومتوسط المساحات وتوفر المرافق وجودة الطرق والمواصلات ومستوى الخدمات الصحية والتعليمية والقيمة الإيجارية السنوية وفق قانون العقارات 196 لسنة 2008، وتؤكد اللجان أن الهدف هو تحقيق عدالة نسبية بين مناطق تختلف فى ظروفها العمرانية والخدمية، لكن التطبيق العملى أظهر فجوة بين النظرى والواقعى.
حدد قانون 164 لسنة 2025 ضوابط الزيادة الإيجارية وفق التصنيف، حيث المناطق المتميزة تُضرب القيمة القانونية ×20 بحد أدنى 1000 جنيه شهريًا، والمناطق المتوسطة تُضرب ×10 بحد أدنى 400 جنيه، والمناطق الاقتصادية تُضاعف ×10 أيضًا بحد أدنى 250 جنيه، كما نص القانون على زيادة 15% سنويًا لمدة 7 سنوات بالإضافة إلى زيادة عامة قيمتها 5 أضعاف القيمة الحالية للوحدات السكنية، وهنا كان جوهر المشكلة، فالتطبيق العددى قد يفوق قدرة كثير من الأسر.
ومع أن التصنيف استند إلى إطار قانونى واضح، إلا أن ردود فعل المواطنين كانت حادة، بعضهم يرى أن التصنيف تم على الورق فقط، آخرون يقولون إن اللجنة لم ترَ ما يحدث داخل العمارات القديمة، كثيرون اعتبروا الحد الأدنى الجديد غير عادل، وهناك من وصف التصنيف بأنه لا يعكس واقع الأحياء الشعبية، خاصة مع شقق متهالكة تحت السلم أصبحت بحد أدنى ألف جنيه، وشوارع غير ممهدة صُنفت متميزة، وشقق كانت بـ100 جنيه أصبحت فجأة بأرقام مضاعفة 20 مرة، وهو ما وصفه المواطنون بأنه انتقال مفاجئ من واقع معاش إلى تصنيف نظرى.
مد عمل لجان الحصر
فى ظل حالة الجدل، أصدر رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى قرارًا بمد عمل لجان الحصر ثلاثة أشهر إضافية بداية من 15 نوفمبر 2025 بهدف مراجعة التصنيف بدقة وإعادة المعاينات فى مناطق مثار خلاف والتأكد من أن التصنيفات تعكس الخدمات الفعلية، وتفتح قضية تصنيف مناطق الإيجار القديم فى الجيزة بابًا واسعًا للنقاش حول مدى قدرة القانون على إصلاح تشوهات عمرت عقودًا واستيعاب الأسر محدودة ومتوسطة الدخل والتوازن بين حقوق المالك والمستأجر والفجوة بين النظرى والعملى، وبينما تؤكد الحكومة أن التصنيف مبنى على أسس واضحة يصرّ المواطنون على أن التجربة اليومية فى شوارعهم تقول شيئًا آخر، وفى انتظار نتائج التصحيح الجديد يبقى المشهد معلّقًا بين طرفين، نص قانونى صارم وواقع اجتماعى هش يخشى تبعات التطبيق الكامل.