رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

 

في لحظةٍ ما، حين يهبط المساء على القرية كما كان يفعل منذ طفولتنا، أشعرُ وكأن الله يزيح ستارًا خفيفًا عن الكون، ليكشف لنا وجهه القديم… ذاك الوجه الذي عرفناه قبل أن تُشعل الكهرباء أعمدة الطرق، وقبل أن تُغطي الأضواء سماءنا بوهجٍ بارد لا روح فيه. في تلك الأزمنة، كان الليل نفسه معلمًا… وكان القمر مفتاحًا صغيرًا يفتح لنا باب السماء.
كنا نعرف طريقنا بالنور الذي لا يُصنع
لم تكن لدينا مصابيح، ولم نكن نحتاجها. كان القمر يهبط فوق الحقول كأنه آيةٌ منسية، وكانت النجوم تُنثر على صفحة السماء كما ينثر الفلاح بذوره قبل موسم الحصاد. ذلك النور الهادئ… لم يكن مجرد ضوء، كان طمأنينة. وكان الفلاح يحسب أيامه على التقويم الفطري الذي ورثه عن آبائه: قمرٌ يكتمل، وآخرُ يولد، وهلالٌ يخبره بأن موعد الحصاد قد اقترب، أو أن المطر على الأبواب.
وفي القرية… للمساء روحٌ أخرى
عندما يأتي المساء، كانت الحياة تبدأ. يجتمع الصغار تحت ضوء القمر، نضحكُ حتى نُرهق القمر من ضحكنا. نركض خلف ظلّنا امتدادًا لخيالٍ لا ينتهي، ونرفع رؤوسنا إلى السماء نسأل الليل عن أسراره. لم يكن سؤالنا طفوليًا كما نظن الآن… كان سؤالًا وجوديًا مبكرًا نردده كأننا نتعلم الأبجدية الأولى للحياة:
"اسألوا لي الليل عن نجمي… متى نجمي يظهر؟"
كنت أنتظر نجمي. كلُّ طفلٍ في القرية كان له نجم، هكذا أخبرونا. نجمٌ يرافقه، يحرسه، يشبهه. وإن غاب نجمك، غابت السكينة عن صدرك ليلًا. أما الآن، فقد اختفت نجوم كثيرة خلف غيوم المدن ودخانها، ولم يعد أحدٌ يعرف أي نجم كان له.
نور الله… حين تُطفأ السماء
كبرنا، ودخلت الكهرباء قريتنا، لكن شيئًا من السكينة خرج. صار الليل مضاءً لكنه بلا روح. لم نعد نرى السماء كما كنا نراها. ثم جاء القرآن ليُذكرنا بحقيقة أعظم:
"وأشرقت الأرضُ بنور ربها"
حين تنطفئ السماء يوم الحشر، لا قمر ولا نجم… نورٌ واحدٌ فقط، نورٌ لا يبهت ولا يتعب.
حين أتذكر هذا المعنى، أعرف أن كل الضوء الذي عشناه في طفولتنا تحت السماء المفتوحة… كان مجرد ظلٍّ من ذلك النور الحقيقي. كان تدريبًا روحيًا مبكرًا على معنى الطمأنينة.
الحنين… ليس للماضي فقط، بل للنقاء
نشتاق للطفولة لأن أرواحنا كانت صافية، ولأن الحياة كانت تُقاس بالقمر لا بالساعة، وبقلوب الفلاحين لا بشاشات الهواتف، وبالسكينة لا بالضجيج.
عندما يأتي المساء الآن، أغمض عيني قليلًا…
أستعيد صوت الضفادع قرب الترعة، ورائحة الطين بعد الغروب، ووجوه أطفالٍ يلعبون كأن القمر جدّهم الأكبر. أستعيد صورة أبي وهو يرفع رأسه نحو السماء، يحسب أيام الشهر على ضوء هلالٍ صغير، ثم يبتسم… كأنه تلقى رسالة من الله.
هذا المساء… كل مساء
كلما جاء الليل، أعود طفلًا. أسأل الليل من جديد:
"يا ليل… أين نجمي؟
هل يظهر؟
أم ضاع بين الأضواء التي صنعتها أيدينا؟"
وأعرف، رغم كل شيء، أن النجوم لا تضيع…
نحن الذين نضيع عنها، ثم نعود كلما هدأ الكون، لنجدها تنتظر بصبرٍ سماويٍّ لا ينفد.
--وفي النهاية…
هذا الكلام ليس حنينًا فرديًّا، بل شهادة لجيلٍ كامل عاش تحت ضوء القمر، جيلٍ عرف النجوم قبل أن تبتلعها أضواء المدن، وعرف الليل حين كان معلمًا لا يخون.
جيلٌ ما زال يحمل في قلبه ذلك النور القديم… حتى وإن تبدّلت الأيام...!!


كاتب وباحث في الشأن الجيوسياسي والصراعات الدولية.