رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي



في عالم السياسة، لا شيء يُترك للمصادفة؛ فكل نظام يسعى إلى البقاء عبر أدواته الخاصة في هندسة الواقع وتشكيل الوعي الجمعي ، غير أن الفارق بين الشرق والغرب لا يكمن في وجود «الهندسة» من عدمها، بل في طبيعتها وأدواتها وحدودها. ففي الشرق تمارس الأنظمة ما يمكن تسميته بـ«الهندسة السياسية»، بينما تمارس الديمقراطيات الغربية شكلًا آخر من السيطرة يُعرف بـ«الهندسة الديمقراطية». الأولى تُدار بالقسر، والثانية تُبنى على الإقناع. والنتيجة في الحالتين واحدة: إرادةٌ تُصنع، لا تُختار.
في عالمنا العربي، تُدار الانتخابات من أعلى إلى أسفل، وكأنها مسرحية متقنة الإخراج معروفة النهاية، تُفصَّل القوانين على مقاس من يملك السلطة، وتُوزَّع المقاعد مسبقًا، وتُفتح الساحة أمام وجوه مأمونة الولاء أكثر من كونها ممثلة لإرادة الناس. الإعلام الرسمي والخاص يتحرك بإيقاع واحد، يوجّه الرأي العام نحو خيار محدد، بينما تُحاصر الأصوات المخالفة بذرائع الأمن أو الوطنية. 
وهكذا تتحول الانتخابات إلى طقسٍ سياسي أكثر منها ممارسة ديمقراطية، غايتها تثبيت النظام لا تجديده. إنها «الهندسة السياسية» التي تحفظ شكل الدولة لكنها تُفرغ روحها من مضمون المشاركة.  أما في الغرب؛ فالصورة تبدو مختلفة في المظهر لكنها متقاربة في الجوهر، فهناك لا تُفرض النتائج بالقوة، بل تُبنى القناعات بالإقناع الممنهج. الإعلام يصنع النجم السياسي ويُغيب خصمه في الظل دون أن يصدر أمرٌ رسمي. شركات استطلاع الرأي ترسم المزاج العام ثم تُعيد تغذيته في وعي الناس حتى يتحول إلى قناعة جماعية. المال السياسي يموّل الحملات، وشركات التكنولوجيا تُحرك الخوارزميات لتوجيه التفكير الجمعي. في النهاية، يصوّت المواطن بحرية ظاهرية، لكنه يختار ما صُنِع له أن يختاره مسبقًا. إنها «الهندسة الديمقراطية» التي لا تُقصي أحدا ً بالقسر، لكنها تُغرق الجميع في بحرٍ من التوجيه الناعم حتى يفقدوا قدرتهم على التمييز.  الفرق الجوهري بين النموذجين هو في شكل السيطرة:
في الشرق، تُمارس السلطة وصايتها على الوعي بالقوانين والتهديد، وفي الغرب تُمارسها بالمعلومة والإغراء، هناك تُسكت المعارضة بحجة الأمن القومي، وهنا تُخدرها بحرية الكلام التي لا تُغيّر شيئًا. في الأولى، تُقيد الإرادة بالسلاسل، وفي الثانية تُقيد بالأفكار المصنوعة بعناية .. وكلا النموذجين يُفضي إلى نفس النتيجة: شعوبٌ تُقاد — بعضها بالقوة، وبعضها بالحيلة.
ومع ذلك، يظل الفارق الحقيقي في درجة الوعي الجمعي وقدرة الشعوب على محاسبة من يصنع لها وعيها. 
فالغرب، رغم هندسته الدقيقة، يحتفظ بآليات تصحيح داخلية تتيح للمجتمع مراجعة ذاته، بينما الشرق ما زال يرى في المراجعة تهديدا ً لا تطورا ً. الغرب يتيح هامشا ً للنقد فيبقى متوازنا ً، أما الشرق فيغلق كل نوافذ الضوء خشية التيار.  لكن أيًّا كانت صورة الهندسة، فإنها تنهار أمام الوعي الحقيقي؛ فالقسر يفقد سطوته حين يُقابله إدراك، والإقناع يفقد سحره حين يُفكك منطقه. حين يدرك المواطن أن الديمقراطية ليست ورقة في صندوق بل موقف في الوعي، يصبح عصيا ً على التوجيه أياً كانت وسيلته، فالهندسة السياسية تُحكم قبضتها على الجسد، والهندسة الديمقراطية تُحكم قبضتها على العقل، لكن كليهما ينهار أمام إنسانٍ قرر أن يفكر لنفسه.  إنها في النهاية معركة على الوعي قبل أن تكون معركة على السلطة، معركة بين من يريد أن يصنع إرادتك، ومن يصر على أن يكون سيد قراره. فالهندسة — أياً كان نوعها — لا تنجح إلا حين ينام العقل، ولا تنهزم إلا حين يستيقظ الإنسان.