رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

كبسولة فلسفية

حين تطأ قدماك أرض المتحف المصري الكبير، تشعر وكأن الزمن توقف لحظة ليستمع إلى قصة الحضارة المصرية. ليس مجرد مبنى حجري، بل ترجمة حية لفلسفة حضارة عميقة، فلسفة لا تدرس التاريخ فحسب، بل تبحث عن العقل والروح التي تحركه. هذه الفلسفة، التي تجلت في مصر القديمة عبر مفهوم «ماعت»، تتجلى اليوم في المتحف الحديث كحافظة للذاكرة ومُعيد إنتاج للنظام الكوني وفكرة الدولة المركزية.
داخل أروقته، يظهر المتحف كـ «ماعت» حديثة، مفروضة على أكثر من 100 ألف قطعة أثرية بنظام سردي دقيق، يشبه البيروقراطية المصرية القديمة، حيث يُحوّل الفوضى المحتملة إلى رؤية مترابطة وواضحة لتاريخ مصر، مؤكدًا على السلطة المركزية للدولة واستمرار فلسفة الحضارة. كل قاعة، وكل مسار، وكل ترتيب للقطع الأثرية يحكي قصة الانضباط والتوازن، ويجعل الزائر يعيش تجربة التاريخ وفق ترتيب متقن، لا مجرد عرض بصري، بل تجربة معرفية متكاملة.
الهيكل المعماري للمتحف لا يعكس فقط النظام، بل يروي أيضًا قصة القوة والاستمرارية، فحجمه الضخم وتقنيات التصميم الحديثة وتكاليفه العالية تؤكد على مركزية الدولة وقدرتها على حماية تراثها وإعادة إنتاجه وفق المخطط الفلسفي القديم. المتحف، بواجهاته الزجاجية والصلبة، يجمع بين الصلابة والشفافية، بين القوة والرحابة، في رمز حي للفلسفة التي تربط بين المادة والروح، بين البنية والتوازن، تمامًا كما كانت فلسفة مصر القديمة تنسج كل عناصر المجتمع ضمن وحدة متكاملة.
أما الغاية الكبرى للمتحف فهي الخلود، حيث تخلق طرق العرض والتقنيات الحديثة شعورًا بالدهشة والرهبة، وتحافظ على القطع وكأنها تتحدث عن الأبدية، مجسدة بذلك فلسفة مصر القديمة في تجاوز قيود الزمن وتحقيق استمرارية المخطط الحضاري. كل قطعة، من أصغر تميمة إلى أعظم تمثال، ليست مجرد أثر، بل رسالة خالدة، جزء من نص فلسفي حي يعيد إنتاج المفهوم الذي جعل مصر تخلّد نفسها منذ آلاف السنين.
وفي رحلة التجوال بين الأروقة، يتجلى المخطط الخالد للحضارة المصرية في كل زاوية من المتحف، كأن كل حجر، وكل قطعة، وكل خط، يعيد إنتاج فكرة الدولة المركزية وفلسفة ماعت، ليبقى الزائر أمام تجربة تعليمية وحسية متكاملة. هذه التجربة تمنح الشعور بأن الحضارة المصرية ليست مجرد تاريخ محفوظ في متاحف، بل فلسفة حية، ومخططًا خالدًا يتجدد في كل لحظة، قادرًا على إلهام الأجيال وإثارة الإعجاب والإحساس بالدهشة.
المتحف المصري الكبير إذًا ليس فقط مستودعًا للقطع الأثرية، بل مشروعًا متكاملًا يحاكي «ماعت» القديمة في العصر الحديث. إنه نص معماري ومتحفي يعيد إنتاج المبادئ التي شكلت الدولة والفكر المصري القديم، ويؤكد أن فلسفة الحضارة المصرية، القائمة على النظام والعدالة والسعي نحو الخلود، لا تزال حية، وفاعلة، وقادرة على توجيه المشاريع الكبرى في القرن الحادي والعشرين.
كل حجر يُرفع، وكل قطعة تُعرض، وكل تصميم يُنفذ، هو ترجمة معاصرة للمخطط الخالد. من خلال هذا المشروع، تصبح فلسفة الحضارة المصرية أكثر وضوحًا وجاذبية، وتتحول من مجرد فكرة تاريخية إلى تجربة حسية ومعرفية، تتيح للزائر أن يعيش معنى الخلود، ويستشعر عظمة النظام والعدالة التي جعلت مصر قادرة على الصمود أمام التغيرات العميقة على مر العصور.
المتحف المصري الكبير إذًا ليس مجرد مساحة عرض، بل قلب نابض لفلسفة الحضارة المصرية، مكان يتحدث فيه الحجر والزجاج والفن عن وحدة العقل والروح، عن الدولة والعدالة، وعن الخلود الذي صاغته «ماعت» عبر آلاف السنين، ليبقى إرث مصر خالدًا ومُلهمًا لكل من يخطو بين أروقته.
[email protected]