لفت نظر
قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مؤتمر شرم الشيخ إن مصر تتمتع بمعدلات منخفضة من الجريمة. الجملة - سواء قصدها ترامب وبناء على معلومات أو كانت مجاملة دبلوماسية - وصلت إلى الإعلام الدولى وأعطت صورا سريعة عن مصر كدولة آمنة. لكن الحقيقة الميدانية لا تقاس بتغريدة أو تصريح واحد. فبينما تسجل إنجازات فى ملفات الأمن العام، تظهر أمامنا جرائم جديدة ومؤلمة تنقض الصورة المثالية بسرعة: من اعتداءات فردية إلى حوادث دهس وإهمال تصيـب المواطن العادى وتجرح شعور الأمان لدى المجتمع.
خاصة مع انتشار ظاهرة العنف فى الطبقات الراقية فى المجتمع المصرى حادث الدهس الذى وقع فى بيفرلى هيلز - كمثال على الجرائم التى تثير الانتباه إعلامياً — يذكرنا بأن الجريمة لم تختف، بل تغيرت أشكالها وانتقلت بأحيان كثيرة إلى فضاءات لم نعتد على وجود جريمة العنف فيها وعلينا علاجها بفعالية. ولا يهم إن وقع الحادث داخل أو خارج البلاد.. ما يهم هو أن كل واقعة عنف أو إهمال تستغل إعلامياً لتشويه صورة بلدنا إذا لم نرد عليها بإجراءات فعلية ومعلنة.
صحيح ان كل تلك الجرائم يتم محاربتها بالقانون ولايفلت متهم من العقوبة ولكن هل تكفى الإجراءات الأمنية والقانونية وحدها.. بالطبع لا المسألة أبعد من ذلك وتحتاج إلى إصلاح جذرى يبدأ من المنزل والتربية إذا، بدل أن نسمح بأن تهدر دعاية إيجابية متاحة — مهما كان مصدرها — علينا أن نوظفها فى خدمة مجتمعنا واستنهاض طاقة إصلاح حقيقى فى محاربة تلك الظاهرة من خلال عدة إجراءات منها:
أولاً: الاعتراف بالمشكلة ثم قياس حجمها. من الضرورى أن تعلن الجهات المسؤولة عن قواعد بيانات شفافة عن أنواع الجرائم المنتشرة: عنف أسرى، اعتداءات الطرق، جرائم إلكترونية، تهرب ضريبى وغيرها.. الشفافية تقوى ثقة المواطن وتسهم فى وضع حلول تستهدف الجذور.
ثانيًا: تحديث التشريعات وتفعيل العقاب الردعى بشكل متوازن. الكثير من الجرائم المستجدة تنبع من فراغ تشريعى أو ضعف إنفاذ. يجب مراجعة القوانين المتعلقة بالسلامة العامة، جرائم الطرق، الجريمة الإلكترونية، وفرض آليات فعالة لمراقبة تطبيقها، مع مراعاة حقوق المتهمين والضحايا على حد سواء.
ثالثا: الاستثمار فى الوقاية لا الاعتماد فقط على رد الفعل. حملات توعية مرورية، تعليميات حول التعامل مع العنف الأسرى والمدرسى، برامج لمحو الأمية الرقمية لخفض الاحتيال الإلكترونى كل ذلك أقل تكلفة وذلك أثر أكبر من التعامل مع نتائج الجريمة بعد وقوعها.
رابعا: رغم تفوق الشرطة المصرية وتحديثها بشكل مستمر والتدريب بفاعلية على محاربة الجريمة فإننا نحتاج إلى تحصين الأجهزة الأمنية بالمعدات والتدريب والحوكمة. الأمن الفعال يحتاج شرطة قادرة ومحاسبة فى آن واحد. تدريب الضباط على إدارة الحشود، التحقيق الجنائى الحديث، وتعزيز وحدات الجرائم الإلكترونية سيحسن الاستجابة ويخفض معدلات الإفلات من العقاب.
خامسًا: رعاية الضحايا وتأمين شبكات دعم فعالة. الضحية ليست رقمًا إحصائيا؛ تأهيل نفسى، تعويضات قانونية، مسارات للعودة للعمل والحياة الطبيعية كلها تقلص أثر الجريمة على المجتمع وتمنع دورات الانتقام والعنف.
سادسا: إشراك المجتمع المدنى والإعلام إيجابياً واستغلال كل تصريح خارجى لنجعل منه ذريعة لإطلاق مبادرات: حملات لجمعية خيرية لضحايا الحوادث، مبادرات مجتمعية لمراقبة الشوارع بالعمل التطوعى، وتعاون بين مؤسسات خاصة وحكومية لتجهيز مرافق السلامة العامة.
أخيرا: استغلال «الدعاية المجانية» كحافز لا كوسيلة تنتهى اثرها بعد حين مهما بلغت اهميتها. اعتراف شخصية عالمية مثل ترامب بمعدلات منخفضة من الجريمة يجب أن يكون وقودا لرفع سقف الطموح، لا غطاء يدفعنا للراحة. علينا أن نحول هذا التقدير إلى مسئولية: أن نستثمره فى سياسات وإجراءات ملموسة تثبت على أرض الواقع أن مصر بلد آمن ليس لسبب تصريحى فحسب، بل لأن المؤسسات والمجتمع عملا معا لمنع الجريمة وحماية المواطن.
التصريحات الدولية مفيدة حين تستخدم كمرآة تبين ما نحن عليه الآن، وكدافع لنصبح أفضل غدا. لن نضيع مثل هذه الفرص بإحصاءات سطحية أو بيانات معسولة؛ سنحولها إلى مشروع وطنى شامل لمحاربة كل أشكال الجريمة الحديثة. بهذا نضمن أن تكون صورة مصر الحقيقية أقوى من أى دعاية، وأن الأمان يصبح حقيقة يومية يشعر بها كل مواطن مصرى.
[email protected]