منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي فتحت أبوابها للأشقاء بلا تأشيرات ولا قيود ، لم تتعامل مع المأساة كملف لاجئين، بل كقضية إنسانية وأخوية، فاحتضنت مئات الآلاف من السوريين على أرضها، ووفرت لهم الأمن وفرص العمل، وسمحت لهم بالمشاركة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي بحرية كاملة.
كان ذلك موقفا نبيلا يسجله التاريخ لمصر قيادة وشعبا، فقد قدمت ما لم تقدمه دول أغنى وأقدر ، وبالفعل استطاع كثير من الأشقاء السوريين أن يندمجوا في المجتمع المصري، وأن ينجحوا في مشروعات صغيرة ومتوسطة ساهمت في تحريك الأسواق وتوفير منتجات وخدمات بجودة عالية.
غير أن الصورة تغيرت تدريجيا خلال السنوات الأخيرة ، فبينما رحبت الدولة المصرية برجال الأعمال والمستثمرين السوريين، تمددت العمالة السورية داخل السوق المحلي بصورة غير منظمة، حتى تحولت إلى ظاهرة اقتصادية لها تأثير مباشر على فرص العمل المتاحة للشباب المصري.
العمالة غير المنظمة أي التي تعمل خارج مظلة القوانين الضريبية والتأمينية أصبحت تزاحم العمالة الوطنية في قطاعات متعددة ، من المطاعم والمخابز، إلى الورش، بل ومحال التجزئة المنتشرة في المحافظات ، وما بدأ كحالة تضامن إنساني، تحول إلى اختلال واضح في سوق العمل، حيث تراجعت فرص التشغيل للمصريين، وازدادت المنافسة غير العادلة بسبب الفارق في الأجور وغياب الالتزامات القانونية عن جزء كبير من العمالة الوافدة.
المسألة هنا لم تعد اقتصادية فقط، بل امتدت إلى البعد الاجتماعي والأمني.
فارتفاع البطالة في مجتمع شبابه يمثلون أكثر من 60% من السكان هو خطر على استقرار الدولة وتماسكها، خاصة حين يشعر المواطن بأن الأجنبي ينافسه في رزقه داخل وطنه.
ثم جاءت التطورات الأخيرة لتزيد الموقف تعقيدًا ،فقد ظهرت على مواقع التواصل أصوات محسوبة على الجالية السورية تتجاوز كل حدود اللياقة والامتنان، وتهاجم مؤسسات الدولة المصرية، بل وتدعو إلى التظاهر وإثارة الفوضى.
وهنا لا يمكن الصمت أو التساهل، لأن الكرامة الوطنية لا تُقاس بعدد الضيوف الذين استضفناهم، بل بمدى احترامهم لقوانين الدولة التي يعيشون فيها.
إن مصر لا تعادي أحدا، ولا تنكر فضل من احترم قوانينها وساهم بصدق في نهضتها، لكنها تضع اليوم خطوطا فاصلة بين الاستثمار الشرعي الذي يُرحب به ويدعمه القانون، وبين العمالة العشوائية التي تهدد فرص المصريين وتضرب استقرار سوق العمل.
لقد توقفت الحرب في سوريا، وبدأت مرحلة إعادة الإعمار، ومن المنطقي أن يعود أبناؤها لبناء وطنهم، فبلادهم اليوم في حاجة إلى سواعدهم أكثر من أي وقت مضى.
العودة ليست عقوبة، بل مسؤولية وطنية وإنسانية.
أما مصر، فهي تمارس حقها في تنظيم سوق العمل بما يضمن التوازن بين حق الضيف وحق المواطن ، فترحيل العمالة غير المنظمة ليس إجراء انتقاميا، بل خطوة لإعادة الانضباط إلى السوق وحماية العدالة الاجتماعية.
مصر التي احتضنت الجميع ستظل كما هي دولة رحيمة قوية، لا تُغلق بابها في وجه أحد، لكنها أيضا لا تقبل أن يُساء إليها من فوق أرضها ،ومن نسي فضلها، فبلاده أولى به.