رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

الزاد

فى البدء كانت مصر، وكانت الأغنية صوتها ووجدانها، نبضها الذى لا يخمد، وحنينها الذى لا يموت، كانت الأغنية الوطنية أمـاً تحتضن أبناءها، وحبيبة تغنى لها القلوب قبل الألسنة، وملهمة تشعل فينا نار الفخر والانتماء. كنا نغنى لمصر كما نغنى للأم، كما نناجى الحبيبة، كما نحتمى بالوطن. له نغنى.. وله نفدى الروح والجسد.
كان الوطن بالنسبة إلى الفنانين قضية مقدسة، وكل كلمة تقال فى حب مصر كانت عاطفة تزف على نغمة عود أو بين أنغام أوركسترا. لذلك خلدت تلك الأغنيات لأنها لم تصنع فى استديوهات باردة، بل ولدت من قلب مشتعل بالحب والانتماء.
بسم الله.. الله أكبر.. عاش اللى قال.. بلادى السمرا.. رايات النصر.. احلف بسماها وبترابها.. بالأحضان.. بحبك يا مصر.. مصر هى أمى.. النهر الخالد.. فلسطين.. يا حبيبتى يا مصر.. مصر تتحدث عن نفسها.. الأرض الطيبة.. أصبح عندى الآن بندقية.. البندقية اتكلمت.. الأرض بتتكلم عربى.. خلى السلاح صاحى.. نشيد الجهاد.. مصر التى فى خاطرى.. بوابة الحلوانى تتر المسلسل الشهير.. ويا أم الصابرين.
تلك ليست مجرد قائمة من الأغنيات، بل تاريخ كامل للوطن فى وجدان المصريين والعرب. وأعمال خلدت لحظات النصر، وصور الانكسار، وأوقات البناء، وأخرى منحت الأمل حين كان الألم يملأ القلوب. هذه الروائع شكلت ما يمكن تسميته بـ«العصر الذهبى للأغنية الوطنية»، العصر الذى كان فيه اللحن يوازى الرصاصة، والكلمة تعادل الموقف، والصوت هو التعبير الأصدق عن نبض الناس.
هذه الأعمال هى التى يتضمنها كتاب تاريخ الأغنية المصرية، لأنها ببساطة تمثل الوجه الأجمل لوجدان هذا الشعب، وتحمل توقيع أعظم من عبروا عن مصر بالصدق والإحساس.
لكن الغريب أننا لم نسمع أغنية وطنية حقيقية منذ أكثر من أربعين عاماً على الأقل. ربما كانت أغانى نصر أكتوبر، وما تلاها من أعمال قليلة، هى آخر ما استمتعنا به من الغناء الوطنى بالمعنى العميق للكلمة. ومنذ ذلك الوقت، تراجعت الأغنية الوطنية إلى الظل، فقدت حماسها وحرارتها، وأصبحت أقرب إلى الشعارات منها إلى الفن.
فى الماضى، كان الوطن هو الحبيبة، وكانت الأغنية الوطنية تولد من رحم المشاعر الصادقة، لا من قاعات الاجتماعات ولا من حملات الدعاية. وكانت الكلمة تخرج من قلب شاعر محب، فتجد فى وجدان الملحن أرضاً خصبة، يضعها فى إطار موسيقى ملهم ومؤثر، ثم يأتى الصوت.. صوت يملك القدرة على اختراق القلوب قبل الآذان.
كانت الحالة كلها إنسانية وفنية فى آن واحد؛ الوطن كان يعيش فى الوجدان، فيتحول إلى لحن وكلمة وصوت وصورة. والمستمع نفسه كان شريكاً فى تلك الحالة، يتفاعل بصدق، ويغنى بفخر، ويبكى حين يسمع اسم بلده.
أما اليوم، فالأغنية الوطنية أصبحت واجباً رسمياً لا حالة وجدانية. وغابت العاطفة، وضاعت البساطة التى كانت سر التأثير. ولم نعد نسمع تلك النغمة التى تهز القلب وتدفعنا إلى أن نقول كما قالت أم كلثوم:
«وقف الخلق ينظرون جميعاً.. كيف أبنى قواعد المجد وحدى».
أم كلثوم غنتها لنا بمنتهى الوقار والقوة؛ فهى عندما قالت «وقف الخلق»- عبارة أصبحت رمزاً لهيبة الصوت وقدرته على أن يثنى الحضور ويجعل الصمت نفسه مشهداً مشحوناً بالمعنى.
كانت مصر هى التى تتحدث، وكان صوتها يعلو عبر حنجرتها.
ومثلما عبر «عبدالوهاب» بصوته وتلحينه عن الموقف الوطنى: «لدعم فلسطين أخى جاوز الظالمون المدى»- هذه الكلمات ليست مجرد بيت يردد، بل موقف انفجر لحناً وكلمة دفاعاً عن قضية تستحق الغناء والتضحية.
محمد عبدالوهاب، كان صوته ووجدانه سلاحاً من نوع آخر، يصدح قائلاً من أجل فلسطين والعروبة
«أخى جاوز الظالمون المدى.. فحق الجهاد وحق الفدا»
وعندما غنت المجموعة من كلمات عبدالرحيم منصور وألحان بليغ حمدى الله أكبر.. بسم الله بسم الله..
هكذا كانت الأغنية سلاحاً من لحن وكلمة وصوت، أقوى من البيانات والخطب، لأنها خرجت من القلب فوصلت إلى القلب.
لقد كانت الأغنية الوطنية فى مصر مرآة لضمير الأمة، وعنواناً لفنها الأصيل، ورمزاً لقدرتها على تحويل الألم إلى أمل، والدمع إلى لحن، والوجع إلى انتصار.
فهل آن الأوان أن نستعيد تلك الروح؟
أن يعود الوطن حبيباً فى أغنياتنا لا شعاراً فى كلماتنا؟
ربما يكون الجواب فى قلوب من لا يزالون يؤمنون بأن الأغنية الوطنية ليست مجرد موسيقى... بل وجدان وطن.
نحن لا نحتاج إلى إعادة الأغنية الوطنية فقط، بل إلى إعادة الروح التى أنجبتها.
نحتاج إلى أن يعود الوطن فى قلوب المبدعين كما كان — الأم التى نغنى لها، الملهمة التى نكتب عنها، الحبيبة التى نفديها بالروح والجسد. فالوطن ليس علماً نرفعه فى المناسبات، بل هو نبض يسكن داخلنا، يسكن الكلمة واللحن والصوت.
حين نغنى لمصر كما غنى لها عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وشادية، حين تصبح الأغنية من القلب، سيعود للوطن صوته، وللأغنية رسالتها، وللناس انتماؤهم.
حينها فقط... سنسمع الوطن يغنى من جديد.
نعم، الأغنية الوطنية الآن لم تعد تحرك المشاعر والأحاسيس كما كانت، ولم تعد تجمعنا تحت شجرتها الظليلة كما فى الماضى. أصبحت الآن مجرد كلمات تقال، وألحان تؤدى، وغناء لا نشعر به. غاب عنها الدفء، وتلاشى منها الشجن، فلم تعد الجسر الذى نعبره نحو شاطئ الذكريات.
عكس أغانى زمان، التى كانت كل واحدة منها ترتبط فى وجداننا بموقف أو ذكرى أو حدث، كأنها خيط من نسيج عمرنا لا يمكن أن يفك. كان ألبوم الذكريات يقف بنا عند أغانى الزمن الجميل بكل ما تحمله من صدق وبساطة وحنين، أغانٍ لا يبهت لونها مهما مر الزمن، ولا تمحوها الأيام مهما تغيرت الملامح.
نعود إليها كلما أطل علينا عام جديد يحمل ذكرى حدث عشناه، فنجد فيها أنفسنا، ونستعيد من خلالها دفء الماضى ونقاء المشاعر التى كنا نغنى بها للوطن والحب والحياة.