شهدت العقود الأخيرة تحولًا جذريًا فى طبيعة الصراعات، فبعد أن كانت محصورة فى ميادين المعارك التقليدية، تطورت لتصبح «حروبًا بديلة» تستهدف العقول والاقتصاد قبل الأرض. هذه المخططات المتوالية، التى يشير إليها البعض على أنها بدأت بغزو العراق عام 2003 وتصاعدت مع ما سُمى بـ «ثورات الربيع العربي»، كشفت عن استراتيجية جديدة لهيمنة تهدف إلى إسقاط الدول من الداخل عبر السيطرة فكريًا واقتصاديًا وسياسيًا. هذا التحول يظهر بوضوح فى تطور أجيال الحروب:
أجيال الحرب: من التكتيك المباشر إلى السيطرة الفكرية
الجيل الأول والثاني: السلاح والجيوش.
الجيل الأول: يمثل الحرب التقليدية بين جيشين نظاميين فى أرض معركة محددة (كحرب أكتوبر 1973).
الجيل الثاني: تطور بسيط للجيل الأول، حيث يشمل حرب العصابات أو الشوارع، مع اختلاف فى التنظيم والتكتيك.
الجيل الثالث: الحروب الاستباقية.
هو مصطلح تبنته الولايات المتحدة لتبرير التدخلات الخارجية، مثل حرب العراق، ويطلق عليه اسم «الحروب الوقائية» أو «الاستباقية».
الجيل الرابع: اللادولة.
تعتمد على حروب الوكالة، حيث يكون الخصم كيانات لا دولاتية كالجماعات والميليشيات المسلحة والمرتزقة كما فى الصراعات ببعض مناطق مثل السودان وايضا بعض الدول الأخرى
الجيل الخامس والسادس: حرب المعلومات.
الجيل الخامس: هو «حرب الشبكات الافتراضية» التى ترتكز على المعلومة كسلاح أساسى. تعمل على ثلاثة محاور: إطلاق الشائعات عبر إعلام مأجور، بهدف إحداث النقْم والسخط وانعدام الثقة فى الدولة، وفى النهاية تدمير الثروة البشرية (الشباب) وتحويلها إلى قوة مدمرة مُحبَطة.
الجيل السادس: تطوير لاستراتيجية المعلومات، يطلق عليها «سياسة ما بعد الحقيقة» (Post-Truth Politics). تهدف إلى التضليل المعلوماتى (Disinformation) وتخاطب العواطف والمشاعر بدلًا من العقل، لنشر الأكاذيب وإضعاف القيادة وتغييب الشعوب.
الجيل السابع: الاستعباد الرقمى.
يُعرف بـ «حرب الاستعباد الرقمي». هدفه تحويل الإنسان إلى نسخة مُعدّلة ومسلوبة الإرادة، يعمل وينفذ المطلوب منه دون تفكير أو اعتراض، لخدمة مصالح القوى المهيمنة.
استراتيجيات الرد: كيف نحصّن الأوطان ضد الحروب البديلة؟
تتميز هذه «الحروب البديلة» بكونها أقل كلفة مادية وأفضل نتيجة لمن يشنها. الرد عليها يجب أن يكون مُضادًا لطبيعتها، لا أن يقتصر على الإنفاق العسكرى.
لتحقيق التجنب والتحصين ضد هذه الأجيال من الحروب، لا بد من تبنى الحلول التالية:
الاستثمار فى الوعى والتفكير النقدي:
تضمين برامج تعليمية لتعزيز التفكير النقدى ومهارات تحليل مصادر المعلومات لدى الشباب، ليكونوا قادرين على فك شفرة الشائعات و«ما بعد الحقيقة».
التحصين الاقتصادى الوطني:
مواجهة الاستعمار الاقتصادى عبر تعزيز الإنتاج المحلى وتنويع مصادر الدخل، وتخفيف الاعتماد على القروض الخارجية لتجنب الوقوع «بين المطرقة والسندان».
بناء جسور الثقة والمشاركة:
مواجهة انعدام الثقة عبر تعزيز الشفافية وفتح قنوات اتصال حقيقية وموثوقة بين الدولة والمواطنين، وإشراك الشباب فى صناعة المستقبل.
الأمن السيبرانى وحماية البنية التحتية:
تعزيز القدرات الوطنية فى مجال الأمن السيبرانى لحماية المعلومات والبنية التحتية الرقمية، ومنع الاختراق والسيطرة فى إطار «الاستعباد الرقمي».
إن مواجهة حرب الأجيال الجديدة تبدأ من تحصين العقل، وتنمية القدرة على التمييز، وبناء اقتصاد قوى ومرن يقف سدًا منيعًا أمام محاولات السيطرة والإسقاط.