رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

لم يعد الحديث عن روبوتات شبيهة بالبشر مجرد انتاج هندسي في منظومة التقدّم الصناعي، بل غدا عنوانًا لتحول فلسفي عميق يطال طبيعة الإنسان وحدود الوعي ووظيفة الذكاء ذاته. لقد أصبحنا نعيش في مرحلة تاريخية تذوب فيها الفواصل بين الطبيعي والاصطناعي، وبين المشاعر والبرمجيات، ويقف العالم على أعتاب منعطف تتداخل فيه الابتكارات التقنية مع الأسئلة الوجودية الكبرى.
المثير هو أن مشاريع بناء روبوتات ذات هيئات بشرية وسلوكيات محاكاة أقرب إلى التفاعل الطبيعي، أصبحت شأناً يوميًا في مختبرات كبرى شركات التقنية، مستندة إلى تطورات غير مسبوقة في الذكاء الاصطناعي التوليدي، والتعلم العميق، والهندسة العصبية. ولعل المفارقة أن هذه الكيانات الآلية لم تعد محصورة في المصانع أو البيئات الصناعية، بل بدأت تتسلل تدريجيًا إلى الفضاءات الاجتماعية، والتعليمية، والصحية، وحتى العاطفية، حاملة معها أسئلة غير مسبوقة حول طبيعة "الذات"، وشرعية "البديل"، وحدود العلاقة بين الإنسان والآلة.
إذا كانت الروبوتات في الماضي القريب تُصمَّم لأداء وظائف ميكانيكية محضة، فإن المشهد الحالي يُشير إلى مرحلة مختلفة جذريًا، حيث تسعى الشركات والمراكز البحثية إلى تطوير روبوتات تمتلك قدرة على التفاعل اللغوي، والتعرف على الوجه، وتفسير الإيماءات، وحتى محاكاة التعبيرات العاطفية. النموذج الشهير "صوفيا"، وكذلك "آسيمو"، لم يكونا مجرد مجسمات تقنية، بل كانا محاولتين أوليّتين لتمثيل "الوجود شبه البشري" على هيئة إلكترونية. ومع صعود الذكاء الاصطناعي القائم على نماذج اللغة العملاقة، بات بالإمكان توليد محادثات طبيعية تكاد تُخطئها العين غير المدربة، مما يطرح سؤالًا استراتيجيًا حول مدى القرب الفعلي بين الذكاء المصطنع والوعي البشري.
تنبع أهمية هذا التقدم من كونه لم يَعُد محصورًا في المختبر أو النموذج التجريبي، بل أصبح يدخل في صميم البنى المجتمعية. فالروبوتات الاجتماعية بدأت تُستخدم في رعاية كبار السن، وفي بيئات التعليم، وفي منصات الإعلام والترفيه، في محاولة لتخفيف الضغط عن اليد العاملة البشرية، لكن دون التخلي عن "البعد الإنساني" في التفاعل. وهنا يظهر التحدي الأهم: إلى أي مدى يمكن لهذه الكيانات الاصطناعية أن تُشكّل بديلًا فعّالًا للعلاقات البشرية، دون أن تُفضي إلى تراجع الترابط الاجتماعي أو اتساع فجوة التواصل بين الأفراد؟
في موازاة هذا التقدّم، تُطوَّر نماذج لغوية مثل ChatGPT ومثيلاتها، التي لا تكتفي بتوليد النصوص أو تقديم الإجابات، بل تُظهر قدرة متنامية على التقاط أسلوب المتحدث، وفهم سياق الحديث، والتفاعل بطريقة تُحاكي المقصود من الكلام، بل وتُضفي عليه طابعًا بشريًا من خلال استخدام الدعابة أو التعبير اللغوي الوجداني. ولم تعد هذه التقنيات محصورة في التطبيقات الترفيهية أو أدوات المساعدة الذكية، بل أصبحت حاضرة في مساحات حياتنا اليومية بوصفها وسيطًا جديدًا في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا.
وفي عالم الألعاب الإلكترونية، تطورت الشخصيات الرقمية التي كانت مبرمجة مسبقًا لتؤدي أدوارًا ثابتة، إلى كيانات رقمية تملك القدرة على التعلم والتفاعل وفقًا لما يقوم به المستخدم، ولتخلق أشكالًا جديدة من العلاقات التفاعلية داخل البيئات الافتراضية. هذه البيئات لم تعد مجرد منصات ترفيهية، بل أصبحت فضاءات تظهر فيها ملامح جديدة للتواصل والسلوك، ذات أبعاد نفسية واجتماعية لم تكن ممكنة في السابق.
يبلغ هذا التحوّل مستوى أكثر دقة وخطورة حين ننتقل للحديث عمّا يُعرف بـ"الذكاء الاصطناعي العام"، وهو المفهوم الذي يشير إلى بناء نظام ذكي يمتلك القدرة على أداء أي مهمة ذهنية يستطيع الإنسان إنجازها، لا ضمن نطاق محدّد، بل في مجالات معرفية متعددة ومتغيرة. 
هذا الطموح، الذي شغل عقول الباحثين لعقود، لا يُختزل في كونه إنجازًا تقنيًا جديدًا، بل يُمثّل نقطة انعطاف وجودية تُعيد طرح أسئلة كبرى حول معنى التفكير، وحدود الوعي، وموقع الإنسان في معادلة الذكاء. فبمجرد تحقق هذا النوع من الذكاء، لن نكون بصدد تطوير أداة، بل سنكون أمام كيان غير بشري يمتلك قدرة إدراكية شاملة، تؤهله ليكون شريكًا معرفيًا حقيقيًا، لا مجرّد نتاج صناعي تحت السيطرة.
ولعلّ الروبوتات المصمّمة لتشبه البشر في الهيئة والسلوك — والتي تُعرف اصطلاحًا بالروبوتات الإنسانية الشكل — تُجسّد بشكل واضح هذا المسار المتسارع نحو محاكاة الإنسان. فلم تعد هذه النماذج التقنية تسعى فقط إلى تقليد الحركات أو محاكاة الصوت، بل أصبح هدفها بناء جسد اصطناعي قادر على التواصل الاجتماعي، والتفاعل العاطفي، بل والمشاركة في إعادة تشكيل مفهوم "الآخر" داخل الإدراك البشري. فالإنسان، في مواجهته لهذا "الشبيه الاصطناعي"، لا يعود يتعامل مع آلة، بل مع مرآة تُشبهه، وتدعوه لإعادة التفكير في حدود ذاته. 
ومع تسارع تطور هذه الكيانات شبه البشرية، يُتوقّع أن تدخل تدريجيًا في قطاعات كانت تُصنّف ضمن أكثر المجالات احتياجًا للتفاعل الإنساني. من خدمة المتعاملين إلى الرعاية المنزلية، ومن الدعم النفسي إلى العمل الإداري، تقترب هذه النماذج من أداء أدوار كانت حتى وقت قريب حكرًا على البشر، مما يجعل من الضروري التفكير في إطار قانوني واجتماعي جديد يواكب هذه المتغيّرات، ويعيد ضبط العلاقة بين الإنسان والآلة داخل المنظومة المؤسسية.
ورغم الآفاق الواسعة التي تفتحها هذه الطفرات التكنولوجية، إلا أن التحديات المصاحبة لها تظل على قدرٍ مماثل من الخطورة والتعقيد، بل وتفرض أسئلة أكثر إلحاحًا على المستوى الأخلاقي والمجتمعي. أول هذه التحديات هو سؤال: من يملك الحق في برمجة هذه الكيانات؟ ومن المسؤول عن سلوكها؟ وهل يحق لها اتخاذ قرارات أخلاقية تؤثر في الإنسان؟ وما حدود استخدامها في مجالات مثل الأمن، والقضاء، أو التربية؟ هذه ليست أسئلة نظرية بعيدة عن الواقع، بل قضايا تشريعية وسياسية باتت تفرض نفسها على صُنّاع القرار في السياسات العامة والتشريعات الوطنية.
الجانب الآخر من التحديات يتمثل في مخاطر الاستخدام المزدوج. فكما أن الروبوتات قادرة على تقديم الرعاية والمساعدة، فإنها قابلة أيضًا للاستخدام كأدوات للسيطرة أو الإضرار، سواء في السياقات العسكرية أو المعلوماتية. وهناك أيضًا التأثيرات الاجتماعية طويلة المدى، كاستبدال الوظائف التقليدية، أو تفكك الروابط الاجتماعية، أو الانفصال العاطفي عن الواقع، وهي آثار تتطلب تصوّرات مجتمعية جديدة لما يعنيه "أن تكون إنسانًا" في عصر الذكاء الاصطناعي.
من هذا المنطلق، لا بد من استراتيجيات متعددة المستويات؛ تشريعية، فلسفية، تعليمية، وتكنولوجية. ينبغي إنشاء أطر حوكمة جديدة تتعامل مع هذه الكيانات بوصفها أكثر من مجرد أدوات، بل كعناصر لها وقع اجتماعي وثقافي ونفسي. كما يجب أن تُدرَّس هذه التحولات في الجامعات، ويُعاد التفكير في المناهج التربوية التي تتعامل مع مفهوم الذكاء والمعرفة والتفاعل الإنساني.
وفي خضم هذا التقدم المتسارع، من المهم ألا نُسلّم بأن كل ما يمكن تصنيعه هو بالضرورة تقدم، وألا ننشغل ببريق الإنجاز التقني على حساب الأسئلة الجوهرية التي تظل عصيّة على أن تُجاب بخوارزميات أو تُختزل في معادلات حسابية؛ من نحن؟ وما الذي يمنحنا صفة الإنسان؟ وهل هناك في جوهر التجربة البشرية ما لا يمكن نسخه، ولا ترجمته إلى شفرة، ولا عرضه كسلعة؟
في نهاية المطاف، ليست المسألة اليوم ما إذا كانت الروبوتات ستحل محل البشر، بل ما إذا كنا، في سعينا إلى محاكاة أنفسنا، قد بدأنا بإعادة تعريف "البشري" وفقًا لمعايير صناعية. في لحظة كهذه، لا يعود الانشغال بالذكاء الاصطناعي مجرد شغف تكنولوجي، بل يتحول إلى وسيلة لفهم الذات البشرية من زاوية مختلفة، زاوية لا تنطلق من العاطفة أو التجربة الحسية، بل من تحليل دقيق لا يخضع للانفعالات، وليُجبرنا على النظر إلى أنفسنا بعين عقلانية صارمة. ويبقى السؤال الجوهري ليس في حدود ما تستطيع الآلة إنجازه، بل فيما إذا كان للإنسان دور يتجاوز ما أصبح قابلاً للبرمجة.