رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

اﻟﺪﻛﺘﻮر ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺜﻤﺎن الخشت أﺳﺘﺎذ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺪﻳﻦ:

دعوتى إلى «عصر دينى جديد» لا تعنى إلغاء الدين

بوابة الوفد الإلكترونية

لا أخوض حربًا ضد التراث.. ولا أتبنى الحداثة الغربية

مشروعى فى حقيقته يقف فى موقع نقدى بين الطرفين

تديين الدولة ليس ضمانة للنهضة..و«تهميش» الأديان ليس شرطًا للتقدم

«التنوير» مشروع لتحرير العقل المسلم من الجمود والتقليد

أرفض خطاب »الاستلاب».. و«الفقه» اجتهاد بشرى متغير

الفكر التكفيرى أخطر ما يهدد المجتمعات المسلمة

الفلسفة أساس لتجديد الخطاب الدينى دون المساس بثوابت الإيمان

الجماعات الأصولية استعملت «المقدس» فى الصراع السياسى والإيديولوجى

موسوعتى العالمية جزء من معركة فكرية ضد الانغلاق والتكرار ومواجهة الأصوليات

 

 

 

فى لحظة تاريخية يعلو فيها ضجيج الخطابات المتطرفة، وتتآكل فيها المساحات الآمنة للفكر العقلانى، تتجدد الحاجة إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والدين، ليس عبر التلقين أو الحفظ، بل من خلال مساءلة جذرية لمفاهيمنا، ومناهجنا، وتصوراتنا عن المقدس. من هنا تبرز «موسوعة الأديان العالمية» بوصفها عملًا فكريًا غير تقليدى يتجاوز حدود التوثيق إلى أفق إعادة التأسيس، وهى من تأليف المفكر العربى البارز الدكتور محمد عثمان الخشت، أستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة، ورئيس جامعة القاهرة السابق، وعضو المجلس العلمى الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الانسانية، وأحد أبرز منظرى التجديد الدينى فى الفكر العربى المعاصر.

يعرف الدكتور الخشت بمشروعه المعرفى المتكامل لتأسيس خطاب دينى عقلانى جديد، يجمع بين الاجتهاد التأويلى العقلانى والمنهج العلمى الفلسفى، ويقوم على تحرير العقل الإسلامى من التراكمات التاريخية المغلقة، وإعادة فهم النصوص المؤسسة فى ضوء مقاصدها الكبرى، وقواعدها الكلية، بعيدًا عن أسر الحرفية أو التوظيف الأيديولوجى. وقد ألّف عشرات الكتب والأبحاث فى فلسفة الدين، ومقارنة الأديان، ونقد الفكر التراثى، أبرزها: نحو تأسيس عصر دينى جديد، مدخل إلى فلسفة الدين، تطور الأديان، للوحى معانٍ أخرى، وغيرها. تولى رئاسة جامعة القاهرة (2017–2024)، حيث قاد مشروعًا تاريخيًا لتحديثها أكاديميًا وثقافيًا، وأسّس جامعة القاهرة الدولية التى بدأت الدراسة بها عام 2023. وأنتج ما يزيد على 100 عمل علمى، منها 44 كتابًا مؤلفًا، و24 كتابًا محققًا من التراث، و34 بحثًا علميا محكمًا، وتُرجم بعض أعماله إلى الألمانية والفرنسية والإنجليزية والإندونيسية. وكتب الباحثون عن مشروعه الفكرى أكثر من مائة دراسةعلمية ورسالة جامعية، وصدر عنه ستة كتب، كتبها أكثر من مائة أستاذ دكتور وباحث أكاديمى، واعتبرته دراسة بحثية صادرة عن جامعة جنيف رائدًا للاتجاه العقلانى النقدى فى فلسفة الدين فى العالم العربى.

فى هذا الحوار الموسع، يفتح الدكتور الخشت أبواب مشروعه، ويعرض تفاصيل رؤيته التجديدية، التى لا تتوقف عند كتابة موسوعة علمية دقيقة، بل تنخرط فى فحص شامل لبنية الخطاب الدينى السائد.

< بداية.. علاقة الإنسان بالدين قديمة ووثيقة...كيف تشكلت هذه العلاقة وما أبعادها وتأثيراتها على الحياة الإنسانية؟

<< يعكس الدين جوهر التجربة البشرية فى البحث عن الحقيقة والبحث عن المعنى، والتواصل مع الآخرين، والسعى لفهم الكون. ومنذ فجر البشرية، بدأ الإنسان يواجه أسئلة كبرى: لماذا نحن هنا؟ من أين اتينا؟ وما هو مصيرنا بعد الموت؟

ولم يكن الدين مجرد طقوس معزولة، بل هو شكل من أشكال وعى الإنسان بنفسه وبالكون. حين وقف الإنسان الأول أمام الموت أو أمام ظواهر طبيعية غامضة، لم يجد أمامه سوى البحث عن تفسير يتجاوز حدود قدرته المادية. هكذا ظهرت الأديان الأولى، ثم تحولت مع تطور الزراعة والكتابة إلى أنظمة دينية مؤسسية، وأخذت شكل نصوص مقدسة وتعاليم أخلاقية. هذه التحولات صنعت نقطة انعطاف تاريخية، حيث أصبح الدين إطارًا جامعًا يمنح التاريخ مغزى ويوحد التجربة البشرية تحت معنى كونى شامل.

لكن العلاقة بالدين لا تقتصر على الجانب الاعتقادى المجرد، بل هى شبكة من الأبعاد المتداخلة. نفسيًا، يخفف الدين قلق الإنسان أمام المصير المجهول ويمنحه آليات عملية لمواجهة الخوف، مثل الصلاة والدعاء. اجتماعيًا، يتحول الدين إلى منظومة قيمية تنظم العلاقات، وتبنى جسور التضامن بين الأفراد والجماعات. ثقافيًا ورمزيًا، يصوغ الدين الذاكرة الجماعية عبر الرموز الكبرى، كالصليب والهلال، ويمنحها قدرة على الاستمرار عبر الأجيال. أما على المستوى الطقسى، فإن الممارسات الدينية مثل الصوم والحج والصلاة ليست مجرد شعائر، بل أدوات للتواصل مع المطلق والمبدأ الاول للوجود وأيضًا لتجديد الانتماء وتعميق الرابط بالهوية.

وهكذا يتبين أن الدين ليس مجرد إيمان غيبى، بل قوة كبرى أسهمت فى تشكيل وعى الإنسان بذاته وبالعالم.

< فى رأيكم هل توجد مشكلة فى التدين أم فى الدين نفسه كما يرى البعض؟

<< الدين فى أصله وحيٌ مقدس، لكن المشكلة الكبرى تكمن فى التدين البشرى. التدين ليس هو الدين، بل هو نتاج عقول بشرية تأثرت بظروفها التاريخية والسياسية والثقافية. حين ننظر إلى مظاهر العنف والتطرف، نجد أنها لا تعكس الإسلام النقى الذى جاء به الوحى، وإنما تمثل إسلامًا مزيفًا صاغته جماعات مغلقة استعملت المقدس فى الصراع السياسى والأيديولوجى. من هنا أطلقت منذ سنوات دعوتى إلى «تجديد المسلمين لا الإسلام»، لأن جوهر الوحى لا يحتاج إلى إصلاح، بينما يحتاج البشر إلى إعادة بناء عقولهم ومناهجهم.

وفكرة الاكتفاء بـ«تجديد الخطاب الدينى» لا تكفي؛ لأنها أشبه بترميم بيت قديم متهالك. ما نحتاج إليه هو تأسيس خطاب دينى جديد وتطوير علوم الدين نفسها عبر منهجية نقدية صارمة، تستلهم الشك المنهجى عند إبراهيم الخليل وديكارت، وتقوم على الفصل بين القطعى والظنى، والثابت والمتغير، والتمييز الحاسم بين المقدس والبشرى. بهذا التمييز نضع الأمور فى نصابها، فلا نخلط بين النصوص الإلهية القطعية وبين اجتهادات الفقهاء التى هى بطبيعتها نتاج بشرى قابل للتغيير.

ولهذا أؤكد أن علوم التفسير والفقه والحديث، بما هى اجتهادات بشرية، قابلة للتطوير أو الاستبدال بما يلائم تطور العلوم ومتطلبات العصر.

ودعوتى إلى «عصر دينى جديد» لا تعنى إلغاء الدين، بل إعادة توجيه التدين نحو أفق عقلانى علمى قادر على التفاعل مع العصر. ومع أن بعض المفكرين الغربيين مثل ريتشارد دوكينز يذهبون إلى أن الدين نفسه أصل المشكلات، إلا أننى أصر على أن جوهر الوحى يظل طاقة إيجابية روحية وأخلاقية، وأن الخلل الحقيقى يكمن فى القراءة الجامدة والتدين المؤدلج.

والخلاصة أن المشكلة ليست فى الدين كنصوص ومقاصد، بل فى التدين كسلوك وفهم بشرى متغير.

< هناك من يدعو من العلمانيين ومن على شاكلتهم بتهميش دور الدين فى الحياة حتى نرتقى كما ارتقى الغرب العلمانى فما ردك على هذا الطرح؟

<< تهميش الدين ليس شرطًا للتقدم، كما أنّ تديين الدولة ليس ضمانًا للنهضة. الشرط الحاسم يكمن فى الأخذ بمنجزات العلوم الطبيعية والرياضية، ومؤسسات عادلة، ودولة محايدة، وتجديد للتدين يحوّله إلى قوة دافعة للعلم والحرية والازدهار الاقتصادى والعدالة.

إنَّ الدعوة إلى تهميش الدين بحجة أنّ الغرب تقدّم بعلمانيته تبسيط مخلّ. العلمانية الغربية لم تكن نمطًا واحدًا، بل تنوّعت بين نماذج مختلفة: فرنسا ذات الفصل الصارم، والولايات المتحدة دولة مدنية جمعت الفصل الدستورى والسياسى مع حضور دينى قوى، وألمانيا التى أسست تعاونًا قانونيًا منظمًا بين الدولة والطوائف. القاسم المشترك لم يكن إقصاء الدين بل إعادة تنظيم العلاقة بينه وبين الدولة بحيث تُدار الشؤون العامة وفق مبادئ المواطنة والحقوق، بينما بقى الدين حاضرًا فى المجال الاجتماعى والخاص.

إن تقدّم الغرب لم يكن حصيلة العلمنة، بل نتيجة تراكم الثورة العلمية والنهضة الفكرية والفلسفية وتطوير مؤسسات الاقتصاد والقانون والتعليم. كما أنّ الدين ظلّ مصدرًا عند كثير من الناس للقيم الأخلاقية والمعنى فى تلك المجتمعات.

ولا يقوم البديل على إقصاء الدين ولا على هيمنته على الدولة، بل على التوازن: دولة محايدة تحكمها القوانين العامة والحقوق، ومجتمع مدنى تعددى يتيح مشاركة الفاعلين الدينيين وغير الدينيين، ومجال خاص يضمن حرية الاعتقاد. ومن الأمثلة المعاصرة دولة ماليزيا التى تظهر إمكان الجمع بين الهوية الإسلامية والتقدم الاقتصادى والتكنولوجى والفصل بين الدين والسياسة، وهى دولة مدنية وليست دينية، فيما فشلت نماذج العلمنة المتطرفة، وأيضًا نماذج الدولة الدينية، فى بعض الدول فى إحداث تقدم حقيقى. وهكذا فطريق النهضة لا يمر عبر محو الدين من الحياة، بل عبر إصلاح التعليم، وتعزيز البحث العلمى، وبناء مؤسسات عادلة.

< فى رأيك لماذا تأتى أغلب نظريات الوعى من الفلسفة والأديان؟

<< ارتباط أغلب نظريات الوعى بالفلسفة والأديان ليس مصادفة، بل هو نتيجة لدورهما التاريخى فى تفسير الوجود والأصل والمصير والمسئولية. منذ العصور الأولى، لم تكن هناك علوم اجتماعية أو أدوات قياس تجريبية، فكانت الفلسفة والأديان هما المرجعيتين الأساسيتين اللتين يلجأ إليهما الإنسان للإجابة عن أسئلة المعنى: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وإلى أين نمضي؟

<< الفلسفة قدمت أدوات التفكير النقدى لفهم الوجود والقضايا العامة مثل العدالة والحرية والمساواة، وبهذا أسست لوعى نقدى بالمسئولية الاجتماعية والسياسية. أما الأديان فقد وجهت الوعى نحو القيم الأخلاقية والروحية، وربطت بين الفرد والجماعة عبر مفاهيم كالعدل والرحمة والتضامن. هذا التوازن بين العقل الفلسفى والبُعد الأخلاقى الدينى هو ما جعل الوعى العام فى المجتمعات البشرية مشدودًا إلى هذين المصدرين معًا.

< ماذا يقصد بالتنوير وهل لا بد لأى مشروع تنويرى من مرجعية؟

<< التنوير فى معناه العام هو انتقال الإنسان من الاتباع الأعمى إلى استخدام العقل النقدى والحرية فى التفكير. لكن كل مشروع تنويرى يحتاج إلى مرجعية؛ ففى أوروبا كانت المرجعية هى العقل والعلم، بينما فى الفكر العربى والإسلامى المرجعية هى مزيج من العقل النقدى والمقاصد العليا للدين.

فى أوروبا ظهر التنوير فى القرنين السابع عشر والثامن عشر كحركة فكرية هدفت إلى تحرير العقل من هيمنة الكنيسة والتقاليد الجامدة. كانط لخّصه بعبارة «لتجرؤ على أن تفكر بنفسك»، أى استعمال العقل بلا وصاية. المرجعية هنا لم تعد النصوص الدينية أو السلطة الكنسية، بل العقل النقدى، التجربة العلمية، والفلسفة السياسية التى أسست لمفاهيم مثل العقد الاجتماعى وحقوق الإنسان. ومن هذه الأرضية نشأت الدولة الحديثة، الديمقراطية، والعلمانية بصيغ مختلفة، بحيث غدا الدين شأنًا فرديًا أو مجتمعيًا لا يهيمن على المجال السياسى.

أما فى السياق العربى والإسلامى، فالتنوير لم يُطرح– ولا يزال– بوصفه قطيعة مع الدين، لأن الإسلام عند المفكرين الإصلاحيين لا يُختزل فى مؤسسة كنسية، بل هو نص ومقاصد كبرى يُنظر إليها كطاقات قابلة للتجديد. هنا يصبح التنوير مشروعًا لـ إصلاح التدين وتحرير العقل المسلم من الجمود والتقليد.

< يكثر الحديث عن نهضة الأمة وليس نهضة مصر فقط فما هو مفتاح النهضة من وجهة نظركم ومتى انحسرت مشاريع النهضة فى رايك؟

<< من وجهة نظرى، مفتاح النهضة يكمن فى نهضة العقل والعلوم والعودة إلى قيم الاجتهاد، والعقل النقدى، والقراءة التأويلية للنصوص، والأمة تحتاج إلى امتلاك أدوات الإنتاج العلمى والمعرفى الحديث.

التعليم الشامل والتطبيقى هو ركيزة أساسية لهذه الأرض المعرفية. تجارب مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أدى التعليم المهنى إلى إعادة بناء الاقتصاد بها، تُبرز أهمية ربط التعليم بسوق العمل. وما نجحت فيه اليابان هو الاستمرارية وبناء الدولة الحديثة، وما فشل فيه المسلمون هو فقدان المؤسسات، وانغلاق العقل تحت ضغط الصراعات الداخلية، والتبعية السياسية والثقافية.

والخلاصة أن مفتاح نهضة الأمة يكمن فى عقلنة التدين، وسيادة الفكر العلمى، وبناء أرض معرفية وتكنولوجية، وإصلاح المؤسسات، وتوحيد الطاقات الفكرية والثقافية.

< ما الدافع وراء إصداركم موسوعة الأديان العالمية فى ستة أجزاء شاملة.. وهل العالم العربى فى حاجة إلى مثل هذه الموسوعات؟

<< إصدار هذه الموسوعة هو جزء من معركة فكرية ضد الانغلاق والتكرار، لا ضد التراث ولا هى إيمان أعمى بالحداثة. إنها لبنة فى مشروع أوسع يسعى إلى تأسيس معرفة دينية وإنسانية جديدة، تحتكم إلى العقل، وتحترم التنوع، وتواجه التعصب بالتحليل والتفكيك. وهى بهذا ضرورية، بل عاجلة، فى السياق العربى الراهن.

والدافع وراء إصدار موسوعة الأديان العالمية ينبع من حاجة معرفية عميقة تتعلق بغياب مشروع موسوعى شامل باللغة العربية يتناول الأديان والمذاهب والفلسفات والنظريات المتصلة بها بطريقة علمية ومنهجية مركبة. لم يكن الهدف مجرد إضافة كتابية، بل بناء مرجعية معرفية تؤسس لوعى نقدى متجدد، يجمع بين الدقة الأكاديمية والانفتاح على السياقات الفلسفية والتاريخية والإنسانية التى نشأت فيها الأديان.

من ناحية أخرى، الموسوعة لم تأتِ لتُقرّب بين الأديان بتذويب الفروق، بل لتُظهر المساحات المشتركة دون أن تتنازل عن الاعتراف بالاختلافات الجوهرية، وذلك من منطلق أن التعدد فى ذاته ليس تهديدًا، بل هو أحد شروط الفهم العميق للذات والآخر. ولهذا فإن الحاجة العربية إلى مثل هذه الموسوعات لم تعد نظرية، بل أصبحت شرطًا من شروط تجديد الخطاب الدينى وتأسيس عقل عربى نقدى، قادر على الحوار مع ذاته ومع العالم.

< ما المنهج المتبع فى الموسوعة... ولماذا تم الربط بين الدين والعلوم الإنسانية والطبيعية؟

<< اتبعت موسوعة الأديان العالمية منهجًا علميًّا مركبًا يجمع بين الوصف، والتحليل، والنقد، والمقارنة، دون الوقوع فى النقل الحرفى أو الحياد الساذج. لم تُكتفِ الموسوعة بالسرد التاريخى أو التقديم التقليدى للديانات والمذاهب، بل تبنّت منهجًا عقلانيًّا تعدديًّا يدمج بين المناهج الحديثة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، كالنقد التاريخى، ونقد النصوص، والتحليل الفلسفى، وعلم الاجتماع الدينى، والنفس الدينى، والأنثروبولوجيا، إلى جانب الاستفادة من المدرسة التحليلية واللاهوتية الحرة.

أما الربط بين الدين والعلوم الإنسانية والطبيعية، فلم يكن اختيارًا تجميليًّا، بل ضرورة معرفية نابعة من طبيعة الظاهرة الدينية نفسها. فالدين لا يعيش فى عزلة عن المجتمع والإنسان والبيئة، بل هو ظاهرة معقدة تتقاطع مع الفلسفة والتاريخ والسياسة والاقتصاد والعلم. ولهذا ظهرت فى الموسوعة شخصيات مثل نيوتن وفرويد ودوركايم وأوجست كونت، لأن تأثيرهم الفكرى يمتد إلى ما هو دينى، سواء فى تحليل الظاهرة الدينية، أو فى تأسيس منظورات علمية تساعد على فهم تحولات المعتقد.

هذا الربط يهدف إلى كسر القوالب التقليدية التى تحصر الدين فى دوائر ضيقة عقائدية أو شعائرية. ومن هنا، فإن هذا التوسع المنهجى يُعد جزءًا من مشروع تفكيك الانغلاق العقائدى وبناء تصور أكثر شمولًا وإنسانية للدين فى العالم المعاصر.

< هل سعت الموسوعة إلى مواجهة الأصوليات ونقد الخطاب الدينى المنغلق؟

<< نعم، سعت موسوعة الأديان العالمية بشكل واضح إلى مواجهة الأصوليات ونقد الخطاب الدينى المنغلق، ليس من موقع الخصومة مع الدين، بل من منطلق عقلانى تحليلى يسعى إلى تفكيك التصلب العقائدى والانغلاق المذهبى الذى يهدد التعايش الإنسانى.

فقد أكّدت الموسوعة فى مقدمتها أن من أهم مقاصدها "تفكيك التطرف والتعصب والإرهاب"، باعتبارها ظواهر مناقضة للسلام وللتعددية، بل وهدامة لكل إمكان للتواصل الحضارى بين الشعوب. لم تكتف الموسوعة بإدانة تلك الأصوليات، بل حاولت تحليل بنيتها الفكرية، وتقديم بدائل خطابية تنتمى إلى مشروع "تأسيس خطاب دينى جديد"، يقوم على التعدد، وحرية الاعتقاد، واحترام الآخر.

وقد تم ذلك من خلال تفكيك عدد من المفاهيم المتداولة فى الخطاب الدينى التقليدى، وإعادة تأويلها، كما أكدت مبدأ أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة سوى الله، وهو طرح يعارض ضمنًا كل دعوى حصرية أو امتلاك إلهى من طرف جماعة أو مذهب.

< ما الدور الذى من الممكن أن تلعبه الفلسفة فى قضية تجديد الخطاب الدينى دون المساس بثوابت الدين.. وهل الفلسفة تتعارض مع الإيمان؟

<< تلعب الفلسفة دورًا أساسيًا فى مشروع تجديد الخطاب الدينى، من دون أن تمسّ بثوابت الإيمان، بل إنها تفتح أفقًا أعمق لفهم تلك الثوابت فى ضوء العقل النقدى والوعى التاريخى.

فى السياق العربى الإسلامى، لطالما كانت الفلسفة جزءًا من التقاليد العلمية الراسخة، بدءًا من الكندى والفارابى وابن سينا وابن رشد، الذين سعوا إلى إقامة صلة عقلانية بين الوحى والحكمة. وهذا ما تحاول موسوعة الأديان العالمية استعادته من خلال الجمع بين المعالجة اللاهوتية والنقد الفلسفى، وإبراز النماذج الكبرى من الفلاسفة والعلماء الذين جعلوا من التفكير العقلانى وسيلة لترسيخ الإيمان لا نفيه.

الفلسفة لا تتعارض مع الإيمان فى جوهرها، بل هى أداة لتحريره من الانغلاق والتقليد. وعند الحديث عن ثوابت الدين، يجب التمييز بين ما هو ثابت بنص قطعى وبين ما هو اجتهادى قابل للتجديد. الفلسفة تساعدنا على هذا التمييز؛ فهى تمنح أدوات للتحليل المفهومى، وللنظر فى سياقات النصوص وتاريخيتها، وللتمييز بين جوهر العقيدة وبين أشكال تمثلها فى التاريخ والثقافة. ومن هنا يأتى دورها الحيوى فى مواجهة التأويلات المتصلبة التى تخلط بين المطلق والنسبى، بين المقدس والموروث.

< ما أهم الأفكار التى تراها مهمة لتحديث الخطاب الديني؟

<< فى سبيل تحديث الخطاب الدينى، هناك مجموعة من الأمور الجوهرية التى تتطلب معالجة جذرية وشجاعة فكرية، بعيدًا عن الحلول الجزئية أو المعالجات الشكلية. ومن أبرز هذه الأمور:

< التمييز بين المقدّس والبشري:

لا يمكن تجديد الخطاب الدينى من دون إعادة بناء وعى يفرّق بين النصوص المقدسة المطلقة، وبين التأويلات البشرية التى نشأت عنها فى سياقات تاريخية معينة. كثير من الجمود فى الخطاب الحالى ناتج عن تقديس الموروث البشرى ووضعه فى مرتبة الوحى.

< تطوير علوم الدين:

يجب أن يُعاد بناء علم أصول الفقه، وعلم التفسير، وعلم الحديث، على أساس قواعد عقلانية حديثة تراعى مقاصد الدين الكبرى، وتطور علوم اللغة، ومناهج التأويل، ومقتضيات الواقع المتغير.

< اعتماد التفكير النقدى بدل التكرار:

التحوّل من مناهج التلقين والحفظ إلى مناهج التفكير الحر والتحليل ضرورة لا بد منها. الخطاب الدينى الجديد لا يمكن أن يُبنى بعقلية النقل، بل يجب أن يتأسس على الفهم النقدى للنصوص والسياقات.

< دمج علوم الدين فى علوم الإنسان:

يجب أن يتعامل الخطاب الدينى مع الإنسان لا ككائن روحى فقط، بل كوجود تاريخى واجتماعى ونفسى. لهذا، لا بد من الاستفادة من علوم الإنسان المعاصرة، كعلم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، لفهم الدين بوصفه ظاهرة معقدة ومركبة.

< إعادة بناء المفاهيم الكبرى:

مفاهيم مثل: الطاعة، الجهاد، الولاء والبراء، الفتوى، البدعة، لا بد من مراجعتها مراجعة تأويلية عقلانية، تعيد ضبط معناها فى ضوء مقاصد الدين الكبرى، وروح العصر، والسياق القرآنى.

< فصل الدعوى عن السياسي:

ينبغى تحرير المجال الدينى من التوظيف السياسى، سواء من قبل الأنظمة أو من قبل الجماعات الأيديولوجية. الدين فى أصله خطاب هداية لا أداة صراع على السلطة، ولا وسيلة للهيمنة أو الإقصاء.

< تحرير الدين من سلطات الماضي:

أخطر ما يعوق التجديد هو عقلية "صحة القديم لمجرد أنه قديم". الدين لا يُفهم من خلال سلطة الأسلاف وحدهم، بل من خلال التفاعل الحى مع الوحى والعقل والواقع، بما يحفظ جوهره ويجدد رسالته.

هذه الرؤى ليست مجرد تنظيرات نظرية، بل هى دعائم مشروع إصلاحى شامل يسعى إلى بناء عقل دينى جديد، يتسق مع روح العصر، ويحترم ثوابت الإيمان، وينفتح على المستقبل.

< البعض يتهم مشروعك الفكرى بأنه صراع ضد التراث وانحيازه اعمى للحداثة...فما ردكم على هذا الطرح...وما أبرز الأسس التى يقوم عليها مشروعك الفكرى فى التجديد؟

<< هذا الاتهام بأنَّ مشروعى الفكرى يمثل صراعًا مع التراث، أو انحيازًا أعمى للحداثة يعكس فى جوهره قراءة سطحية أو متعجلة للمشروع، لأن مشروعى فى حقيقته يقف فى موقع نقدى بين الطرفين، لا ضدهما. أنا لا أخوض حربًا مع التراث، ولا أتبنى الحداثة الغربية بوصفها مُسلّمة أو نموذجًا مكتملًا، بل أنظر إلى كليهما من منظور نقدى تحليلى، يستهدف تحرير الفكر من الانغلاق، دون نسف الثوابت أو تكرار المقولات الجاهزة.

وأكرر أنَّ مشروعى ليس صراعًا ضد التراث ولا انحيازًا للحداثة، فالمشروع الذى أتبناه لا يقوم على رفض الماضى، بل على تفكيك ما يعوق تطور الحاضر من داخله. التراث فيه ما هو حى وملهم وقابل للتجدد، وفيه ما هو موروث جامد، تم تحويله بمرور الزمن إلى سلطة فوق العقل والدين. والمشكلة ليست فى التراث ذاته، بل فى طريقة تلقيه، وتقديسه خارج سياقاته.

وبالمثل، فإنَّ الحداثة ليست غاية فى ذاتها، بل هى لحظة تاريخية أنتجت منظومات معرفية وفلسفية يمكن الاستفادة منها، ولكن لا يجب التعامل معها بوصفها بديلًا شاملًا عن الذات. ولهذا أرفض خطاب الاستلاب، كما أرفض خطاب الانغلاق.

أما الأسس التى يقوم عليها المشروع فهى:-

< العقلانية التأويلية: أؤمن بأن النصوص لا تتكلم وحدها، بل تحتاج إلى عقل قارئ يؤوّلها فى ضوء الواقع والمقاصد. وهذا التأويل لا يتم بدون أدوات عقلانية حديثة، تسمح بفتح آفاق النص لا تقليصها.

< نقد التراث لا هدمه: المشروع يستبطن عملية مراجعة شاملة للموروث الدينى، من خلال التمييز بين الدين فى نصوصه الأولى، والدين كما تم بناؤه عبر مؤسسات ومذاهب ومدارس بشرية، كثير منها تعرّض للتسييس أو التجمد.

< تحرير الدين من الوصاية: من الضرورى استعادة الدين من الخطابات الاحتكارية، سواء كانت جماعات أصولية أو مؤسسات تقليدية، وجعله مجالًا حيًا مفتوحًا للتفاعل بين العقل والإيمان.

< الربط بين الإيمان والعقل والضمير: لا يمكن بناء خطاب دينى معاصر دون التكامل بين عمق الإيمان، وحرية العقل، ويقظة الضمير الإنسانى. وهذه الثلاثية تمثل جوهر مشروعى الفكرى فى التجديد.

< الانتقال من الموروث المتطرف إلى الإسلام المحرَّر: المقصود بذلك هو تجاوز التصورات التى أنتجتها الجماعات المغلقة، واستعادة الفهم القرآنى الذى يعلى من شأن الإنسان والعقل والحرية والكرامة.

< التأسيس لمجتمع نقدى لا تقليدى: وهذا يتطلب إصلاحًا فى التعليم، والفكر، والدين، والإعلام، بحيث يكون الإنسان العربى قادرًا على التفكير المستقل، لا مجرد التلقى والتكرار.

إذن المشروع ليس صراعًا، بل هو نقد. ليس رفضًا، بل هو تمييز. ليس قطيعة، بل مراجعة عقلانية واعية. غايته تأسيس وعى جديد يجمع بين عمق الإيمان، وانفتاح العقل، وفاعلية الضمير، فى سبيل تجديد الدين كقوة تحرير لا كسلطة هيمنة، وتفعيل دوره فى بناء الإنسان الحر والمجتمع العادل.

< البعض يوجه سهام النقد للشريعة الإسلامية بأنها لا تمتلك القدرة لاستيعاب التطورات العلمية الحديثة، وأن الفقه الإسلامى بحاجة إلى التجديد.. فما رأيك؟ وهل يمكن إعادة تقديم الشريعة فى شكل جديد يتفاعل مع قضايا العصر دون الاصطدام بالثوابت؟

<< الشريعة الموحى بها فى جوهرها مبادئ كلية ومقاصد عليا صالحة لكل زمان ومكان، أما الفقه فهو اجتهاد بشرى نسبى ومتغير. الخلط بين الشريعة والفقه هو أصل الأزمة. المطلوب اليوم تطوير مناهج الفقه والتفسير على أسس عقلانية نقدية تميز بين القطعى والظنى، والثابت والمتغير. بهذا نستطيع تقديم قراءة جديدة تنفتح على قضايا العصر دون أن نصطدم بالثوابت، فنحافظ على روح الوحى ونحرر العقول من الجمود.

< فى رأيكم ما أهم العقبات التى تقف حائط صد ضد مشروع التجديد فى العالم العربى والإسلامي؟

<< أهم عقبة هى الجمود العقلى الذى يقدّس اجتهادات بشرية وكأنها نصوص مقدسة. وإعادة إنتاج التقليد بدل أن فتح أفق النقد والتجديد. من دون تفكيك هذه العقبات لن يكون هناك تجديد حقيقى، وسيظل الخطاب الدينى أسير تراكمات الماضى.

< أخيرًا… ما خطورة الفكر التكفيرى على المجتمعات الإسلامية؟

<< الفكر التكفيرى أخطر ما يهدد المجتمعات الإسلامية لأنه ينسف مفهوم المواطنة، ويحوّل الدين إلى أداة عنف، ويزرع الشقاق بين مختلف اطياف المجتمع أو الامة. هو فكر يقصى العقل، ويحتكر الحقيقة، ويكفر الآخر المختلف فى الرأى أو المذهب. خطورته لا تقتصر على القتل المادى، بل تمتد إلى قتل روح التعايش، وإلى تشويه صورة الإسلام عالميًا. ومواجهة هذا الفكر لا تكون بالشعارات، بل ببناء عقل نقدى، وتجديد التدين، وتحصين المجتمع بمنظومة تعليمية وثقافية عادلة.