الأزهر يستعيد مسيرة أحد أعلامه.. العالم والأديب طه أبو كريشة

في مطلع أكتوبر من كل عام، يستعيد الأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء ذكرى رحيل واحد من كبار رجالاته وعلمائه البارزين، الأستاذ الدكتور طه مصطفى أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء، الذي رحل عن دنيانا عام 2018، تاركًا إرثًا علميًّا وأدبيًّا وفكريًّا واسعًا، جمع فيه بين اللغة والإيمان، وبين البلاغة القرآنية والنقد الأدبي.
وفي ذكرى وفاته، أعادت هيئة كبار العلماء نشر بعض أقواله التي تعكس عمق رؤيته البيانية والشرعية، ومنها تأملاته في قول الله تعالى بسورة ص:«أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)».
حيث قال رحمه الله:"إنَّ النظرةَ البيانيَّةَ ترى أنَّ الموقفَ هو موقفُ إنكارٍ شديدٍ من هؤلاء الكافرين نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن دعوته، واعتراضهم على بعثته دون غيره. ومن هنا فإنَّ الردَّ عليهم اشتمل على الإتيانِ بصفةِ العزَّةِ للهِ تعالى، التي تعني أنه لا قِبَلَ لأحدٍ أن يعترضَ على مشيئتِه واختيارِه لرُسلِه. وفي الوقت نفسه فإن هذا الاختيار نابع من اتصافه سبحانه بصفة الوهاب، التي تعني أنَّ الاصطفاء هبةٌ من الله لمَن أكرمه بها، وهو ما يجب أن يُقابل بالتسليم المطلق."
سيرة ومسيرة
وُلد الشيخ طه أبو كريشة في 8 مايو 1937 بقرية بني يحيى بمركز ديروط في محافظة أسيوط، وتفوق في دراسته الأزهرية حتى نال المركز الأول على الجمهورية عام 1957. التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وتخرج منها عام 1961، ثم حصل على الماجستير في الأدب والنقد برسالة بعنوان "ميزان الشعر عند العقاد" عام 1970، قبل أن ينال الدكتوراه برسالة "النقد العربي القديم بين المذاهب النقدية الحديثة" عام 1973.
تدرج في المناصب الجامعية حتى شغل منصب عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، ثم نائب رئيس الجامعة لشؤون التعليم والطلاب، قبل أن يتم اختياره عضوًا بهيئة كبار العلماء عقب استئناف نشاطها عام 2012.
لم يقتصر عطاؤه على قاعات الدراسة، بل كان له دور وطني مشهود؛ إذ قضى عشر سنوات في صفوف القوات المسلحة، وشارك في حرب أكتوبر المجيدة، حيث بثّ في نفوس الجنود روح الثقة واليقين مستشهدًا بنماذج من غزوات الرسول ﷺ.
ترك وراءه العديد من المؤلفات في الأدب والنقد، من أبرزها: النقد الأدبي التطبيقي، أصول النقد الأدبي، الخيال الشعري عند أبي الطيب المتنبي، من الشعر العباسي، من الشعر المملوكي، من الشعر الحديث.
فكرٌ حيّ ورسالة متجددة
قراءة الدكتور أبو كريشة للآيات القرآنية تكشف عن منهج متوازن يجمع بين البلاغة القرآنية والفكر النقدي.
فهو يرى أن الاعتراض على اختيار الله لرسله يتجاوز حدود النقاش البشري إلى إنكار الهبة الإلهية، وأن الطريق الصحيح هو التسليم والارتقاء في الأسباب، أي الاجتهاد والعمل الصالح، لا الارتياب والشك.
هذا الخطاب يكتسب اليوم أهمية متجددة، في زمن تتزايد فيه الشبهات الفكرية والاعتراضات الجدلية، حيث يدعو إلى الثبات على القيم، والتسليم بقدر الله، مع بذل الجهد في البحث والعلم والعمل.
رحل الدكتور طه أبو كريشة في الأول من أكتوبر 2018، ونعاه الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء، مؤكدين أن رحيله يمثل خسارة للعلم والفكر والدعوة، لكن إرثه العلمي وكتاباته ومواقفه لا تزال حاضرة، تلهم الدعاة والباحثين والدارسين، وتؤكد أن الكلمة إذا صيغت بصدق وإيمان تبقى خالدة بعد صاحبها.