بعد أكثر من قرن من الانحياز الغربى الصارخ لإسرائيل، من وعد بلفور إلى الدعم العسكرى والسياسى غير المشروط، نرى اليوم تحولًا غير مسبوق: اعترافات متلاحقة بدولة فلسطين من عواصم كبرى لم تكن يومًا إلى جانبها. هذه الاعترافات لم تأتِ بدافع إرادة سياسية عليا فحسب، بل استجابة أيضًا للضغط الشعبى فى هذه البلدان، حيث خرج مئات الآلاف من مواطنيها إلى الشوارع يطالبون بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وندّدوا بما وصفته تقارير حقوقية بـ«جرائم الإبادة».
لو أن بريطانيا أنجبت اليوم شاعرًا أو كاتبًا مسرحيًا عظيمًا يضاهى فى إبداعه شكسبير، لاضطررنا أن نعيد النظر فى ترتيب شكسبير داخل الذاكرة الأدبية: لن يبقى القمّة المطلقة التى لا تُدانيها قمة، بل سيغدو واحدًا من قمم متعدّدة فى سلسلة جبال الإبداع الإنسانى. فالماضى ليس حجرًا صلدًا، بل نصًّا مفتوحًا يُعاد تأويله وتقييمه كلّما أشرق الحاضر بمعطيات جديدة. وكلما ظهرت عبقرية جديدة ستلزمنا أن نقرأ أرشيف الأدب على نحو مختلف.
وهذا، فى رأيى، ما ينطبق على السياسة والتاريخ معًا. فـ«تسونامى الاعتراف» الذى يجتاح العالم اليوم تجاه الدولة الفلسطينية ليس مجرد حدث آنى، بل هو زلزال أخلاقى وسياسى يعيد إضاءة الماضى ويكشف ما حاولت قوى كبرى أن تُبقيه فى الظل. النكبة التى حلّت بالشعب الفلسطينى عام 1948 لم تعد تُقرأ كخاتمة مأساوية، بل كجرح مؤسِّس لمسيرة صمود هائل انتهت اليوم إلى لحظة اعتراف تُعيد للفلسطينيين بعض ما سُلب منهم. ما بدا يومًا كارثة لا خلاص منها، يتحول الآن إلى مقدمة لعدالة متأخرة، لكنها عدالة تؤكد أن الحق لا يموت، وأن التاريخ، مهما طال انحيازه للغريم، لا يستطيع أن يُبقى الظلم سيدًا إلى الأبد.
لا يمكن أن نغفل أنّ القوى الغربية التى تعلن اليوم اعترافها بفلسطين كانت بالأمس القريب جزءًا من المشكلة. فبريطانيا، مثلًا، منحت فى عام 1917 «وعد بلفور» الذى فتح الباب أمام إقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين، رغم أنّ الفلسطينيين كانوا يشكّلون الغالبية الساحقة، وسمّاهم الوعد آنذاك بـ«غير اليهود»، فى إقصاء صارخ لهويتهم وحقوقهم. لقد شكّل هذا الوعد لحظة انحياز غربى صارخ، لم يقف عند حدود بريطانيا وحدها، بل امتدّ إلى الولايات المتحدة وفرنسا، حيث تغلغل اللوبى الصهيونى فى مراكز صنع القرار، وساهم فى ترسيخ سردية مفادها أنّ أمن الاسرائيليين اليهود ومصالحهم فوق أى اعتبار، حتى لو جاء ذلك على حساب طرد الفلسطينى من أرضه.
ولم يكن هذا الانحياز محصورًا بالسياسة فحسب، بل انعكس فى الإعلام والثقافة والتعليم. ففى معظم العواصم الغربية قُدّم الإسرائيلى على أنّه الضحية الأبدية، بينما صُوّر الفلسطينى باعتباره تهديدًا وخطرًا. (وللمقال بقية).