حصاد الأرز في البحيرة.. جهد شاق وعادة متوارثة تحفظ جودة المحصول

في مشهد يعيد للأذهان عبق التاريخ وأصالة الأرض، تتجدد كل عام طقوس حصاد الأرز في قرى دلتا مصر، حيث يواصل العمال العمل بالمنجل، تلك الأداة البسيطة التي ارتبطت بالمصريين منذ آلاف السنين، ليبدو وكأن الزمان قد توقف عند عصر الفراعنة، ورغم التطور التكنولوجي ودخول الآلات الزراعية، إلا أن الكثير من الفلاحين ما زالوا يفضلون الطريقة التقليدية، التي تمنحهم شعورًا بالسيطرة على المحصول، وتقلل من نسبة الفاقد، وتُبقي على طقوس جماعية تعكس روح الترابط بين أبناء القرية.
ومع إشراقة الشمس يبدأ يوم الحصاد، يتوزع العمال في الحقول في صفوف متجاورة، يحمل كل منهم منجلًا لامعًا يلمع تحت أشعة الصباح الحركة تتكرر بشكل إيقاعي؛ انحناءة لقصّ السنابل، ثم ربطها في حزم صغيرة، قبل أن تُجمع على أطراف الغيط في مشهد يفيض بالنشاط والحيوية، ورغم المشقة التي تعلو ملامح الوجوه، إلا أن البسمة لا تفارقهم، فالحصاد بالنسبة لهم هو موسم الخير، وبداية رحلة جني تعب عام كامل من السقي والرعاية.
وعلى جانب آخر من المشهد، تحضر طيور "أبو قردان" بكثافة، لتشارك الفلاحين يومهم المرهق، وكأنها جزء أصيل من طقس الزراعة المصري. تلك الطيور البيضاء الصغيرة تملأ المكان، تتنقل بين الأقدام والسنابل، تبحث عن الحشرات والديدان التي تنكشف مع حركة الحصاد حضورها يضيف لوحة فنية طبيعية، حيث تتناغم حركات العمال ورفرفة أجنحة الطيور في مشهد يثير الدهشة والإعجاب لكل من يراه.
ويؤكد الفلاحيين أن العمل بالمنجل ليس فقط وسيلة للحصاد، بل هو أيضًا عادة متوارثة من الأجداد، تحمل في طياتها قيمة وجدانية، فهم يرون أن الحصاد اليدوي يمنحهم فرصة لمراقبة كل سنبلة، ويجعلهم أكثر التصاقًا بالأرض، مقارنة بالآلات التي قد تُسرع من العمل لكنها تفقده روح الدفء الجماعي.
يقول عبد الله خضر أحد المزارعين بقرية تابعة لمركز المحمودية، في حديثه لـ"الوفد": "المنجل مش مجرد أداة، ده رمز للأصالة والتعب....صحيح الماكينات بتنجز أسرع، لكن حصاد الأرز بالمنجل بيخلينا نضمن أن المحصول بيتجمع بعناية، وبأقل فاقد ممكن".
ويضيف: "إحنا ورثنا الطريقة دي من أجدادنا، وبنعتبرها عادة وطقس ريفي بيجمع الأهل والجيران في موسم الخير".
وعلى الرغم من صعوبة الحصاد اليدوي وما يتطلبه من جهد بدني مضاعف، فإن الفلاحين يؤكدون أن هذه الطريقة تحقق لهم جودة أعلى في جمع المحصول، وتحافظ على سيقان الأرز لاستخدامها كعلف للحيوانات أو كوقود للتدفئة في الشتاء.
كما أن هذه الطريقة القديمة تمنح فرصة لعمل أعداد كبيرة من العمال الموسميين، ما يوفر مصدر رزق لآلاف الأسر في موسم الحصاد.
ويظل موسم حصاد الأرز واحدًا من أهم المظاهر التي تعكس علاقة المصريين التاريخية بالأرض، حيث يمتزج فيه الكد بالفرحة، والتعب بالأمل، وتظل طيور "أبو قردان" شاهدة على لوحة فرعونية تتكرر كل عام، تؤكد أن مصر ما زالت أرض الزراعة والحياة منذ آلاف السنين وحتى اليوم.









