رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

الذكاء الاصطناعي في مستشفى "مورفيلد": حين ترى الخوارزمية ما يغيب عن أعين البشر

بوابة الوفد الإلكترونية

أعلنت وزارة الصحة البريطانية الأسبوع الماضي، تقريرها السنوي حول أداء المستشفيات. وبين عشرات الأسماء التي تزاحمت في القائمة، برز اسم مألوف لعالم العيون: “مستشفى مورفيلد للعيون”، متربعاً على القمة بوصفه أفضل مستشفى عيون في المملكة المتحدة، ويُعدّ – عن جدارة – أفضل مستشفى عيون في العالم.

 

قد يبدو الخبر للوهلة الأولى شأناً بريطانياً محضاً، لكن من يعرف مكانة “مورفيلد” يدرك أن صداه يتجاوز لندن ليصل إلى العواصم العربية؛ فهو ليس مجرد مستشفى، بل مدرسة عريقة ومختبر نابض يزاوج بين حكمة الأطباء ودقة الخوارزميات.

 

هناك، حيث تتلاقى الخبرة السريرية مع أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، تتبدّل قواعد التشخيص. ولم تعد شبكية العين مجرد لوحة يحدق فيها الطبيب عبر عدسة مكبرة؛ صارت سطراً من البيانات تتسابق الخوارزميات لتحلّ رموزه، كاشفة عن أدق العلامات قبل أن تراها العين البشرية.

 

مشهد من داخل «مورفيلد»

تخيّل أنك تـتجوّل في أروقة مستشفى مورفيلد للعيون (Moorfield’s Eye Hospital)؛ الجدران البيضاء ينعكس عليها ضوء هادئ، والأجهزة الحديثة تصطفّ بدقة، من كاميرات التصوير المقطعي البصري التوافقي (Optical Coherence Tomography – OCT) إلى أجهزة تصوير الشبكية التقليدية.

 

في إحدى القاعات، يجلس أطباء العيون جنباً إلى جنب مع خبراء البيانات، يحدّقون في شاشات عالية الدقة تعرض صوراً لطبقات الشبكية بتفاصيل مذهلة.

 

وإلى جوارهم تعمل خوارزميات التعلّم العميق (Deep Learning)، تبحث في أعماق الصور عن أنماط دقيقة قد تغيب عن عين الإنسان. خلال ثوانٍ قليلة، تُصدر هذه الخوارزميات تقارير واضحة تحدد ما إذا كان المريض يعاني من:

 

- اعتلال الشبكية السكري (Diabetic Retinopathy)

 

- الماء الأبيض / إعتام عدسة العين (Cataract)

 

- التنكس البقعي المرتبط بالعمر (

تظهر النتائج على الشاشة في صورة خريطة حرارية ملوّنة، تبرز النقاط التي لفتت انتباه الخوارزمية. يبتسم الطبيب، ليس لأن مهمته انتهت، بل لأن هذه «العيون الرقمية» صارت شريكاً يمنحه رؤية أوسع ووقتاً أثمن لاتخاذ القرار العلاجي الصحيح.

 

بداية القصة: شراكة غيّرت ملامح التشخيص

تعود القصة إلى بضع سنوات، حين اتفق مستشفى مورفيلد للعيون على إقامة تعاون غير مسبوق مع شركة «ديب مايند» (DeepMind) التابعة لـ«غوغل»، وكانت الغاية بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في أثرها: تدريب الآلة على اكتشاف الأمراض التي قد تسلب البصر قبل أن يتمكن الطبيب من رصدها بعينه المجردة.

 

بدأ الفريق المشترك بتطوير خوارزميات قادرة على تحليل صور التصوير المقطعي البصري، وهي صور معقدة تكشف عن طبقات الشبكية بتفاصيل دقيقة.

 

لاحقاً، وُلد مشروع «ريت فاونْد» (RETFound)، وهو ما يُعرف بـالنموذج الأساسي (Foundation Model) في طب العيون، الذي صُمم ليكون بمثابة «المكتبة المركزية» التي تنطلق منها تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتشخيص أمراض العين، من اعتلال الشبكية إلى التنكس البقعي، بدقة غير مسبوقة.

 

كيف تغيّر الخوارزميات قواعد اللعبة؟

الميزة الأبرز لهذه النماذج أنها متسقة (Consistent)؛ لا تعرف الملل، ولا تتأثر بضغط العمل أو قلة النوم، بل تقدّم حكماً متوازناً كل مرة. ثم إنها مدفوعة بالبيانات (Data-Driven)؛ إذ تعلّمت من ملايين الصور الملتقطة من مرضى حقيقيين، بما في ذلك حالات نادرة لا يلتقي بها الطبيب إلا مرة كل أعوام عدة.

 

في دراسة حديثة نُشرت في سبتمبر (أيلول) 2025 بقيادة الباحث د. ديفيد كراب (Dr. David Crabb) من مستشفى مورفيلد للعيون بالتعاون مع جامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن UCL))، أظهر نظام ذكاء اصطناعي قدرة مذهلة على كشف اعتلال الشبكية السكري بدقة تجاوزت 97 في المائة، وهو مستوى يضاهي – وأحياناً يتفوّق على – متوسط أداء استشاري العيون عند قراءة الصور وحدها.

 

أما في حالة التنكس البقعي المرتبط بالعمر، فقد أثبتت الخوارزميات قدرتها على التنبؤ بخطر فقدان البصر قبل أن تظهر الأعراض السريرية، مانحة الأطباء فرصة ذهبية للتدخل المبكر.

 

وبالنسبة إلى الماء الأبيض، فلا تزال الأبحاث في مراحلها الأولى، إلا أن المؤشرات الأولية تبشّر بإمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي لفرز الحالات وتحديد أولويات الجراحة؛ ما يخفف الضغط عن العيادات ويمنح المرضى مساراً أسرع نحو العلاج.

 

فرصة للعالم العربي

هنا يطل السؤال: ماذا يعني هذا لنا في الشرق الأوسط؟ الجواب: فرصة تاريخية.

 

في منطقتنا، تتزايد أمراض العيون بوتيرة مقلقة مع ارتفاع معدلات السكري؛ إذ تشير تقديرات حديثة إلى أن نسبة السكري في بعض دول الخليج تصل إلى أكثر من 30 في المائة، بينما تبلغ نسبة اعتلال الشبكية السكري بين المصابين بالسكري نحو خُمس المرضى في المتوسط، وقد ترتفع في بعض المناطق لتتجاوز نصف الحالات.

 

هذه الأرقام تفتح أعيننا على حجم التحدي؛ فعدد كبير من المرضى قد لا يحصل على التشخيص المبكر؛ ما يعرضهم لخطر فقدان البصر.

 

لذلك؛ فإن إدخال تقنيات مثل تلك التي يطورها مستشفى مورفيلد للعيون، أو بناء شراكات بحثية مع مراكزه، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في رعاية البصر في العالم العربي. الجامعات والمستشفيات هنا تستطيع اعتماد نماذج ذكاء اصطناعي مفتوحة المصدر، وإعادة تدريبها على بيانات محلية تراعي لون البشرة، أنماط الغذاء، والعوامل الوراثية في مجتمعاتنا، لتصل إلى دقة أعلى في التشخيص.

 

غير أن النجاح لن يتحقق بلا استثمار حقيقي: أجهزة تصوير متقدمة، مختبرات بيانات، وبرامج تدريبية تصنع خبراء يجمعون بين مهارة الطب وفهم لغة الخوارزميات، ليُحوّلوا الإمكانات النظرية واقعاً ينقذ البصر ويصون جودة الحياة.

 

لماذا يظل الطبيب في الصورة؟

على الرغم من كل هذه القفزات التقنية، ما زال الطريق طويلاً قبل أن نُسلِّم أعيننا للخوارزميات وحدها. فالذكاء الاصطناعي بارع في تحليل الصور والتقاط الأنماط الخفية، لكنه – حتى هذه اللحظة – عاجز عن القيام بدور الطبيب في الإصغاء إلى شكوى المريض، وطرح الأسئلة المناسبة عن تاريخه الصحي، وطمأنته عندما يتوجّس من التشخيص.

 

ثم إن جودة هذه النماذج مرهونة بما تُغذّى به من بيانات؛ فإذا كانت الصور التي دُرّب عليها النظام محصورة في بيئة أو فئة سكانية محددة، فقد يتعثر عند التعامل مع مرضى من خلفيات مختلفة أو أنماط مرضية غير مألوفة.

 

وفوق ذلك، تقف أمامنا تساؤلات أخلاقية وقانونية: من يتحمل المسؤولية إذا أخطأت الخوارزمية؟ كيف نضمن سرية بيانات المرضى وحمايتها من إساءة الاستخدام؟ هذه القضايا لا تنفصل عن كل ابتكار، بل ترافقه كظله، لتذكّرنا بأن التقنية مهما بلغت دقتها، لا يمكن أن تُغني عن دور الإنسان وحكمته في حماية المريض وصون كرامته.

 

بين الدقّة الرقمية وحسّ الطبيب

في نهاية المطاف، يبقى الذكاء الاصطناعي أداةً مساعدة، لا غاية بحدّ ذاته. إنه أشبه بمصباح يضيء الزوايا الخفية، لكن من يحمل المصباح هو الطبيب، بخبرته، وحدسه، وتعاطفه، وقدرته على قراءة ما وراء الأرقام.

 

ولم يقتصر دور مستشفى مورفيلد للعيون على تطوير الخوارزميات في مختبراته، بل امتدّ ليصل إلى المنطقة العربية، حيث أقيمت مراكز وشراكات طبية تسعى لنقل خبرته العالمية إلى مستوى إقليمي؛ ما أتاح فرصاً لتبنّي تقنيات التشخيص الحديثة وتدريب الكوادر المحلية، حيث إن هناك مفاوضات لتكون لهذا المستشفى العريق مراكز إقليمية في المملكة العربية السعودية.

 

ومهما بلغت دقّة الخوارزميات، فإنها تظل في حاجة إلى الطبيب.

 

يمكننا استلهام تجربة «مورفيلد»، وتطويعها لاحتياجاتنا المحلية، لنصنع منظومات ذكية تحمي بصر الملايين، وتمنح كل مريض فرصة لعيش حياة أوضح وأكثر كرامة.

 

وكما قال ابن الهيثم – رائد البصريات في حضارتنا –: «إذا كان العمل في طلب الحق شاقّاً، فكل ما يُثمره من نور أعظم قيمة».

 

إن بناء شراكة بين العلم والرحمة، بين الدقة الرقمية وحسّ الطبيب، هو السبيل لنورٍ جديد في رعاية العيون، حيث تتلاقى خوارزميات المستقبل مع حكمة الإنسان لتصنع معاً رؤية أوسع وأكثر إشراقاً.