قطوف
جنازة تليق بكلب

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

مات كلب غريب، رفيقه الوفي لعشر سنوات. جلس عند جثته حزينًا، يفكّر في سبيل يكرّمه به جزاء ما أبدى من وفاء. خطرت له فكرة جريئة، فأشرق وجهه لحظة، لكنه ما لبث أن أظلم؛ إذ تذكّر أنّ أهل قريته سيرفضونها ويعدّونه مختلًّا.
رنّ هاتفه، فإذا بصوت صديقه "عربي". تنفّس الصعداء وقال: لقد بعثت السماء عونها في الوقت المناسب.
قصّ على صديقه ما يجول بخاطره، فوعده عربي بأن يساعده في تنفيذ وصيّة كلبه.
أخبر عربي جماعته بالأمر، فتعالت الهمهمات. صاح أحدهم غاضبًا:
"هذا تدنيس لقبورنا وتعدٍّ على حُرمة أمواتنا!"
وقال آخر ساخرًا:
"وهل صار الكلب إنسانًا حتى نفعل؟"
وثالث هزّ رأسه حائرًا لا يدري ما يقول، ورابع تساءل في دهشة:
"أيصحّ أن يُدفن كلب بين موتانا؟"
ابتسم عربي في هدوء وقال:
ـ ولِمَ الدهشة؟ إنّه روح مثلنا، وقد خلقه الله كما خلقنا. لم أتقبّل الأمر أوّل وهلة مثلكم، غير أنّني حين قرأت الوصية بدّلت رأيي.
تفجّر سؤال من بينهم:
ـ أيّ وصية؟
قال عربي وهو يلوّح بورقة أخرجها من جيب جلابيته:
ـ هذه وصية الكلب لصاحبه غريب. أرسلها لي أمس عبر "واتس آب". سأقرأها عليكم:
"أوصيك يا صاحبي أن تدفنني في مقبرة آدمية، وأن تمنح عشرة آلاف دولار لمن يقبل، ليتصدّق بها على روحي."
ضحك أحدهم ساخرًا:
ـ وهل تكتب الكلاب وصايا؟
ابتسم عربي قائلاً:
ـ نحن أولى بالمبلغ، غير أنّنا نُحسن إلى غريب، وهو لن ينسى صنيعنا.
فاجأه آخر متهكمًا:
ـ وأين جثة المرحوم؟
رد عربي:
ـ ستصل غدًا.
وأردف:
ـ أرى أن نقيم للكلب جنازة تليق بصاحبه، فقد يفتح لنا ذلك أبواب خير أوسع.
ساد الصمت، وعلت الدهشة وجوههم. تبادلوا نظرات الاستغراب، وصوّبوا سهام عيونهم إلى عربي، الذي رأى في نظراتهم مسًّا بهيبته وتهديدًا لمكانته، فحاول تهدئتهم قائلاً:
ـ الأفضل أن نحتكم إلى إمام المسجد، فهو صاحب القول الفصل.
حار الإمام ماذا يقول، تفتق ذهنه عن فكرة، طلب أن يمهلوه حتى يرى الكلب.
جاء غريب مع جثة كلبه، ولما سألوا الإمام عن رأيه أطرق لحظة، ثم رفع رأسه مبتسمًا قائلاً:
ـ بعد فحص الكلب تبيّن لي أنه من نسل أصحاب الكهف!
فانقسم القوم، فريق أيّد قرار الدفن، وفريق ضرب كفًا بكف عجبًا، وفريق ثالث انصرف غير آبه، كأن الأمر لا يعنيه.
أما غريب فلم يبدُ عليه العجب بما جرى؛ فقد كان واثقًا من أن صاحبه سيُنفذ طلبه. غير أن دهشته الكبرى بقيت داخله: كيف قبلوا أن يُدفن كلب غريب بين موتاهم، بينما يرفضون أن يُدفن بشر مثلهم لمجرد أنه مختلف عنهم؟