منذ اللحظة الأولى للصراع، ومصر لم تتراجع عن موقعها الطبيعي كدرع وسيف للأمة العربية، وبالأخص في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
ليس صدفة أن تكون القاهرة دائماً أول من يتحدث وأول من يتصدى، فهي بحكم الجغرافيا والتاريخ والضمير لا تملك رفاهية الصمت.
واليوم، تعود إسرائيل لتكرر ذات اللعبة القديمة صناعة المأساة ثم محاولة تجميلها بمفردات زائفة.
أن تصف إسرائيل ما يحدث في غزة بأنه "مغادرة طوعية" ليس إلا وقاحة سياسية مكتملة الأركان، وفضيحة أخلاقية لا يمكن تبريرها .. فالجوع لا يُختار، والحصار لا يُراد، والموت لا يُطلب.
حين خرج وزير الخارجية المصري ليعلن صراحة أن هذا الكلام "هراء"، إنها ليست مجرد كلمات دبلوماسية، بل إعلان موقف أخلاقي رفيع، يضع الأمور في نصابها الصحيح، إنه كان يترجم إحساس كل مصري وعربي حر، ويعيد إلى الذاكرة مشاهد النكبة عام 1948 وما تلاها من نزوح وتهجير.
التاريخ يكرر نفسه، لكن مصر اليوم تقف كالسد لتقول لن يتكرر العبث مرة أخرى. لن يتحول التهجير إلى قدر أبدي للفلسطينيين، ولن يُسمح لإسرائيل ببيع الأكاذيب على أنها حقائق.
إن وصف التهجير بالطوعي ليس مجرد خطأ في التعبير، بل جريمة مقصودة، محاولة لتبييض وجه الاحتلال أمام الرأي العام العالمي.
لكن السؤال أين يقف المجتمع الدولي؟ أين ذهبت شعارات العدالة وحقوق الإنسان التي يُغرقوننا بها صباح مساء؟ الحقيقة أن عجز المؤسسات الدولية، من مجلس الأمن إلى منظمات حقوق الإنسان، لم يعد مجرد صمت، بل صار شراكة ضمنية في الجريمة. العالم يرى صور الأطفال الجوعى، والمستشفيات المنهارة، والجثث تحت الركام، ثم يكتفي ببيانات باهتة تساوي بين الجلاد والضحية.
هنا تأتي أهمية الموقف المصري .. فحين تصر القاهرة على رفض أي صياغة تخفف من حقيقة التهجير القسري، فإنها لا تدافع فقط عن الفلسطينيين، بل تدافع عن جوهر الإنسانية.
فالمسألة لم تعد سياسية فحسب، بل أخلاقية بامتياز. لا يمكن لأي شعب على وجه الأرض أن يرضى بأن يُقتلع الآخر من أرضه ثم يُقال إنه رحل "برغبته".
إن ما تقوم به إسرائيل اليوم ليس سوى استمرار لسياستها التاريخية القائمة على الكذب المنظم، وخلق وقائع على الأرض بالقوة ثم مطالبة العالم بالتعامل معها كأمر طبيعي.
لكن مصر، بعنادها التاريخي، ترفض أن تترك الساحة لهذا العبث.
ومن يتأمل تفاصيل موقفها يدرك أنها لا تبحث عن مجد زائف أو دور إعلامي، بل تؤكد أنها صاحبة مصلحة حقيقية في بقاء غزة صامدة.
فأي محاولة لدفع الفلسطينيين نحو سيناء مثلاً لن تعني سوى تهديد مباشر للأمن القومي المصري.
وهنا يلتقي الوطني بالإنساني، والسياسي بالأخلاقي، ليشكّل الموقف المصري صورة متكاملة من الصمود.
إنني لا أستطيع أن أخفي غضبي من مشهد الصمت الدولي. كيف يقبل العالم أن تتحول المجاعة إلى أداة حرب؟ كيف يسمحون باستخدام المياه والكهرباء والدواء كوسيلة ضغط؟ أي حضارة تلك التي تتشدق بالإنسانية ثم تغض الطرف عن قصف المدنيين؟ إن ازدواجية المعايير باتت عاراً معلناً. فما يُرفض في أوكرانيا يُبرر في غزة، وما يُدان في أوروبا يُتغاضى عنه في فلسطين.
لقد اعتدنا أن تلعب إسرائيل لعبة الضحية، لكنها اليوم عارية أمام العالم.
لا يمكن لأي عقل منصف أن يصدق أن شعباً يفر من تحت القصف والجوع يفعل ذلك "برغبته الحرة".
قالت مصر بلسان وزير خارجيتها ما يجب أن يُقال منذ البداية هذه جريمة تهجير قسري، وهذه محاولة لتكرار مأساة النكبة بوجه جديد .. والسكوت عليها يعني أن العالم مستعد لابتلاع الأكاذيب مرة تلو الأخرى.
إن مصر، وهي تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وتعرض وساطتها، تثبت أنها الطرف الوحيد الذي لا يزال قادراً على مخاطبة كل الأطراف.
لكن على العالم أن يدرك أن هذه الدعوة ليست ترفاً سياسياً، بل صرخة إنسانية قبل أن تكون حسابات إقليمية. استمرار الحرب يعني استمرار النزيف، ومعه تتسع دائرة الغضب والكراهية، ولا أحد سيكون في مأمن من تداعياته.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أستحضر صور الماضي وأضعها جنباً إلى جنب مع صور الحاضر. لا فرق بين وجوه الأطفال الذين هُجّروا قسراً عام 1948 ووجوه أطفال غزة اليوم. الفارق الوحيد أن العالم صار يملك شاشات تنقل كل شيء لحظة بلحظة، ومع ذلك يظل عاجزاً عن وقف المجزرة.
هذه المفارقة المروعة هي التي تجعل الموقف المصري أكثر إلحاحاً، وأكثر صدقاً، وأكثر ضرورة.
إن القضية ليست فقط فلسطينية، بل إنسانية بامتياز. والسكوت عن التهجير جريمة لا تقل عن التهجير نفسه. ومصر، حين تصرخ في وجه العالم، فهي لا تكتفي بالتشخيص، بل تفضح الزيف وتعيد الحق إلى أصحابه.
لذلك أقول بوضوح الموقف المصري اليوم ليس مجرد سياسة، بل هو شرف الأمة وصوت الضمير.
ومهما حاولت إسرائيل أن تزيف، ستظل الكلمة المصرية أشد وضوحاً لا لتهجير الفلسطينيين، لا لاستباحة غزة، لا لشراكة العالم في الجريمة.
حين ننظر إلى الحاضر بعين الماضي، ندرك أن السيناريوهات تتكرر إسرائيل تفرض وقائع بالقوة، ثم تحاول تسويقها كخيارات طبيعية، بينما تتواطأ قوى كبرى بالصمت أو التبرير. لكن وجود مصر في المعادلة يجعل هذه الرواية تنهار. فهنا دولة ترفض أن تكون شاهداً صامتاً، وتصر على أن تقول “لا”، بصوت يسمعه القاصي والداني.
إن مصر، بموقفها الصلب، تكتب فصلاً جديداً في سجلها التاريخي.
تقول بوضوح إن فلسطين ليست قضية ثانوية، بل قضية هوية ووجود.
وإذا كان العالم يتقن لعبة التلاعب بالكلمات، فإن مصر تجيد التمسك بالحقائق، والحقائق لا تتغير: التهجير جريمة، والتجويع جريمة، والصمت جريمة.
في هذه اللحظة، يدرك كل مصري أن موقف بلاده ليس فقط حماية للأشقاء الفلسطينيين، بل هو أيضاً حماية لمصر ذاتها.
فالتفريط في غزة يعني فتح الباب لتهديد الأمن القومي المصري، والتغاضي عن التهجير يعني قبول سيناريوهات أشد قسوة على حدودنا.
ومن هنا، فإن الموقف المصري ليس مجرد تضامن عاطفي، بل هو دفاع عن المستقبل.
إنني أكتب اليوم وأنا أستحضر تاريخاً طويلاً من الانكسارات التي عرفها الشعب الفلسطيني، وأستحضر في الوقت نفسه تاريخاً مصرياً لم يعرف التخاذل أمام الحق.
لذلك أؤمن أن الموقف المصري سيبقى علامة فارقة، وصوتاً لا يمكن للعالم أن يتجاهله. ومهما حاولت إسرائيل تزييف الحقيقة، ستظل كلمة مصر هي الأكثر وضوحاً: لا لتهجير الفلسطينيين، لا لتزييف الواقع، نعم لوقف فوري لإطلاق النار، ونعم لبقاء القضية حية في ضمير العالم.