لم تهتز قاعات المهرجانات السينمائية الكبرى كما اهتزت قاعة مهرجان فينيسيا هذا العام. لم يكن المشهد عادياً، ولم يكن تصفيق الجمهور مجرد تفاعل مع عمل فني، بل كان لحظة انكشاف لجوهر ما يمكن للفن أن يصنعه عندما يتجاوز حدود الترفيه ويصبح شهادة للتاريخ وصرخة في وجه الجريمة.
الفيلم الذي حمل عنوان صوت هند لم يكن فيلماً روائياً بالمعنى التقليدي، بل كان مرآة لواقعٍ مرٍّ، ونداءً خرج من بين الركام ليوقظ الضمير العالمي. الطفلة الفلسطينية هند رجب، التي استشهدت في يناير الماضي بعد أن قضى أفراد أسرتها جميعاً تحت قصف الاحتلال، ظلت تقاوم الحياة وحيدة، متشبثة بخيط رفيع من الأمل عبر مكالمة هاتفية إلى الهلال الأحمر: "أنقذوني". لكن القصف كان أسرع من صوتها، وكان الموت أقرب من أي إنقاذ.
المخرجة التونسية التقطت تلك اللحظة، وحولتها من صرخة عابرة إلى نص بصري خالد. استطاعت أن تمنح الصوت لضحايا بلا صوت، وأن تجعل العالم كله شاهداً على "زمن البراءة المذبوحة". كان التصفيق في القاعة ليس للفيلم فقط، بل لهند، ولكل الأطفال الذين يسقطون في غزة، ولكل الأمهات اللواتي يدفنّ أحلامهن قبل أن تكتمل.
الفن كقوة ناعمة في الصراع
لطالما كان الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد مواجهة عسكرية أو سياسية، بل هو معركة على الذاكرة والوعي والحق في الحكاية. وإذا كان السلاح يصمت حين تخرس البنادق، فإن الفن يظل يتكلم، ينقش على جدران الزمن صورة الدمعة والابتسامة والجرح.
الفن العربي في محطاته المضيئة كان شاهداً على هذه المواجهة. من أغنيات عبد الحليم حافظ التي تحولت إلى أناشيد مقاومة، إلى أفلام مصرية جسدت مأساة مجزرة بحر البقر حين قصف الطيران الإسرائيلي مدرسة أطفال في دلتا مصر، ليؤكد أن دماء الأبرياء كانت دائماً وقود عربدة المحتل.
وحين نفتح كتاب الذاكرة نجد أسماء المحارق: دير ياسين، صبرا وشاتيلا، قانا، عين الحلوة... كل اسم منها ليس مجرد مجزرة، بل لوحة دموية أراد العدو أن يمحوها بالصمت. لكن الفن يعيد رسمها، الفن يكتبها بحروف الضوء على شاشة السينما، ويحولها من حدث في الماضي إلى سؤال أبدي يلاحق البشرية: كيف يُترك الأطفال للموت وحدهم؟
غياب وصحوة
لقد طال غياب السينما العربية عن مواجهة المأساة الفلسطينية. انشغل كثير من صناع الفن بملهاة الواقع الاستهلاكي، وتركوا فراغاً كبيراً في معركة الصورة والرواية. جاء فيلم صوت هند ليذكرنا أن الفن ليس زينة ولا ترفاً، بل قوة ناعمة قادرة على فضح العدو وتعرية قبحه في المحافل العالمية.
إن ما عجزت عنه خطابات السياسيين حققه صوت طفلة. وما عجزت عنه مؤتمرات القمم وصخب البيانات فعلته دمعة واحدة على شاشة بيضاء. هنا تكمن فلسفة الفن: أن يمنح صوتاً لمن لا صوت لهم، وأن يحول الفردي إلى جماعي، واللحظة العابرة إلى ذاكرة كونية.
ما بعد "صوت هند"
ليس المطلوب أن يبقى هذا الفيلم حدثاً عابراً في سجل المهرجانات. بل أن يكون دعوة لصناع السينما العرب كي يستعيدوا دورهم التاريخي في مواجهة الأسطورة الصهيونية بأفلام تقف في مواجهة الأكاذيب. فكما أن العدو يستخدم السينما العالمية لتجميل صورته، فإن علينا أن نستخدمها لفضح عربدته.
من مجزرة بحر البقر في دلتا مصر، إلى صبرا وشاتيلا في بيروت، إلى قانا في الجنوب اللبناني، وصولاً إلى غزة المحاصرة، لا يزال الدم العربي يكتب نصوصاً قاسية، والفن وحده قادر على تحويل هذه النصوص إلى خطاب عالمي لا يمكن تجاهله.
لقد علمتنا "هند" أن الفن يمكن أن يكون سلاحاً أرقى من كل سلاح، وأقوى من كل قذيفة. فالقوة الناعمة لا تحتاج إلى دبابات كي تهزّ الضمير، يكفيها صوت طفلة تقول: "أنقذوني"... ثم يصمت كل شيء، ويبقى الفن شاهداً إلى الأبد.
كاتب وباحث في الشأن الجيوسياسي والصراعات الدولية
[email protected]