إقبال على «المغشوشة» بسبب ارتفاع الأسعار
حلاوة المولد.. فرحة مسمومة

أطنان من المنتجات الفاسدة تغزو الأسواق رغم حملات التفتيش
مواطنون: نحاول إسعاد أطفالنا رغم خطر الموت
أمراض خطيرة تصيب الضحايا.. وعقوبات الغش غير كافية
جلست أم محمود أمام محل الحلوى فى حى إمبابة، تراقب بحنين «حلاوة المولد» تُرصّ فى الفاترينة... عروسة خشبية، حصان سكر، مكعبات ملونة من الملبن والحمصية، وروائح تجذب الأطفال قبل الكبار، لم تكن تعلم أن خلف هذا المشهد البريء، يكمن خطر قد يفتك بصحة أسرتها. فى اليوم ذاته، عاد ابنها الصغير من المدرسة بقطعة حلوى اشتراها من أحد الباعة الجائلين بثمن زهيد، لم يمر سوى ساعات، حتى بدأ يعانى من آلام حادة فى المعدة، أعقبتها حالة قيء وإسهال، وانتهت بليلة كاملة فى قسم الطوارئ.
تتكرر هذه القصة كل عام، بأشكال مختلفة، وضحايا جدد، ورغم فرحة المصريين بموسم المولد النبوى وما يحمله من طقوس وعادات اجتماعية راسخة، فإن هذه المناسبة تحولت فى كثير من الأحيان إلى باب خلفى لتسلل الغش التجارى إلى موائد المواطنين، خاصة مع انتشار ما يعرف بـ«حلاوة تحت السلم» – منتجات تُصنّع فى الخفاء، بلا رقابة، ولا تراخيص، ولا أدنى درجات السلامة الغذائية.
فى مواجهة هذا الواقع، أطلقت أجهزة الدولة حملات موسعة خلال الشهرين الماضيين، شملت القاهرة والجيزة ومحافظات أخرى، لمداهمة مصانع غير مرخصة، وضبط أطنان من الحلوى المغشوشة أو منتهية الصلاحية، ترافقت هذه الجهود مع تحذيرات طبية صارمة من خطورة تناول منتجات غير معلومة المصدر، وسط تزايد الحالات التى تنتهى بمضاعفات خطيرة أو تسمم غذائى..
إحنا كبرنا والفرحة صغرت
تقف سماح عبدالغنى، ربة منزل وأم لأربعة أبناء، أمام إحدى فرشات الحلوى المنتشرة على الرصيف. تنظر إلى الأسعار، تحسب بعيونها دون ورقة أو قلم، ثم تقول للبائع بنبرة خافتة إنها تريد «عروسة وحصان وعلبة حمصية على قد الميزانية». تشرح بحزن أنها لم تعد قادرة على دخول المحلات الكبرى، بعدما ارتفعت أسعار العلب الجاهزة إلى 800 و1000 جنيه، وتضيف: «إحنا على قدنا... بس مش معقول العيال يعدى عليهم المولد كده من غير أى حاجة، حتى لو بسيطة». هى لا تنكر قلقها من جودة هذه الحلوى، لكنها ترى أن الفرحة فى نظر أولادها تستحق المجازفة.
غير بعيد عن هناك، يجلس عم شعبان، موظف بالمعاش، يراقب الأطفال وهم يتزاحمون أمام فرشة صغيرة فى منتصف السوق، يقول إنه اعتاد فى شبابه شراء العلبة الكاملة وتوزيعها على أولاده وجيرانه، أما اليوم، فهو يكتفى بقطعة صغيرة من السمسمية يتناولها مع كوب شاى فى المساء، ليستعيد بها طعم زمن مضى، يضحك ثم يضيف: «إحنا كبرنا والفرحة صغرت... بس بنحاول نعيش الذكرى».
فى الخلفية، نسمع بكاء طفل صغير يريد عروسة سكرية كالتى رأها فى يد أحد زملائه، والدته، التى ترتدى جلبابًا بسيطًا وتحمل فى يدها كيسًا بلاستيكيًا فيه قطعة واحدة، تحاول تهدئته، تهمس بأنها اشترت الحلوى من جار لهم يعمل فى أحد المصانع، بسعر مخفض، وتقول: «مش عاوزين أكتر من كده... المهم يفرح ولو ليوم».
شاب ثلاثينى، يحاول بيع ما تبقى لديه من حلوى جلبها من ورشة صغيرة، يؤكد أنه لا يغش ولا يبيع فاسدًا، لكنه يعترف بأن المنتجات ليست بالجودة العالية التى يراها الزبائن فى المحلات الفخمة، يبرر ذلك بارتفاع أسعار المواد الخام، ويقول إن السكر وحده أصبح عائقًا أمام الاستمرار. رغم ذلك، يفضل البيع للناس البسيطة، الذين يبحثون عن «حاجة حلوة تفرّح الولاد»، حتى وإن كانت من الرصيف.
حملات متواصة لضبط المنتجات الفاسدة
فى إطار الاستعدادات لموسم المولد النبوى الشريف، كثّفت الجهات المعنية- وزارة الداخلية، التموين، الصحة، وجهاز حماية المستهلك- حملاتها الرقابية لمراقبة أماكن تصنيع وتداول حلوى المولد فى عدة محافظات، لا سيما القاهرة والجيزة، إلى جانب المنوفية، أسوان، سوهاج، والأقصر.
فى محافظة المنوفية، ضبطت الأجهزة الأمنية داخل مصنع غير مرخص 4 أطنان من «حلاوة المولد» الجاهزة وتحت التصنيع، بالإضافة إلى 4 أطنان أخرى من خامات غير معروفة المصدر، مُدرجة عليها علامات تجارية وهمية، وتمت إحالة القضية للنيابة العامة فى أسوان، أسفرت الحملة المشتركة بين التموين والصحة والجهاز البيطرى عن ضبط 91 كجم من حلوى المولد مجهولة المصدر، بالإضافة إلى أقراص «مشبك» غير صالحة للاستهلاك، وتم غلق محل لعدم توفر التراخيص الصحية
وفى سوهاج، شنت مديرية الصحة حملات مكثفة بالتعاون مع مراقبى الأغذية، واستُهدف خلالها مخازن وأماكن تصنيع الحلوى. أسفرت الحملة عن ضبط نحو 40 ألف عبوة عصير ومشروبات كان بعضها مغشوشًا، إلى جانب كميات من اللحوم والمقرمشات غير صالحة، وما يقرب من نصف طن من حلويات المولد والمشبك مجهولة المصدر، إضافة إلى طن وربع فول ملوث و3 أطنان من المكرونة المشتبه بها.
أما فى الأقصر، فقد ضبطت مديرية التموين فى أرمنت 60 كجم من حلويات المولد مجهولة المصدر وبدون فواتير، كما وُجدت مخالفات فى المخابز تتضمن استخدام دقيق مدعّم بطرق غير مشروعة
فى الجيزة، وضمن حملات تموينية شاملة، تم ضبط حالة غش تجارى تتعلق بإنتاج حلوى المولد منتهية الصلاحية، بكمية تقدر بـ1 طن و150 كجم، ضمن 69 قضية تموينية متنوعة.
أمراض خطيرة تصيب الضحايا
حذّرت الدكتورة أمل السفطى، مدير مركز السموم الأسبق، من مخاطر تناول حلوى المولد بشكل غير آمن أو مفرط، مشددة على ضرورة معرفة المخاطر المصاحبة للإفراط فى تناولها، وأهمها الارتفاع الحاد فى مستوى السكر بالدم، عسر هضم، انتفاخ أو آلام بالمعدة، نسبة السكر المرتفعة تؤثر مباشرة على صحة الأسنان واللثة زيادة الوزن بسبب السعرات الحرارية العالية.
وأضافت: من الضرورى التاكد من المصدر الآمن والموثوق فيه لتصنيع الحلويات لإنه مع انتشار الأنواع المغشوشة لرخص ثمنها يتم استخدام مكونات غير آمنة أو طرق تصنيع غير مطابقة للمواصفات، ومن أبرز أضرار تناول الحلويات المغشوشة التسمم الغذائى لتلوثها بالميكروبات أو استخدام الألوان الصناعية والمواد الحافظة التى تتراكم وتؤثرعلى وظائف أغضاء الجسم مثل الكبد والكلى والجهاز العصيى. كما تؤثر على الجهاز الهضمى وتسبب تحسس الجلد والحهاز التنفسى.
أكدت السفطى، أن النهج الأمثل لتناول حلاوة المولد دون أضرار صحية يتمثل فى الاكتفاء بقطعة واحدة فقط يوميًا، على أن تُقسّم إلى أجزاء صغيرة تُستهلك على فترات متباعدة، مع ضرورة تقليل محتوى الوجبات الأخرى خلال اليوم لتفادى الإفراط فى السعرات الحرارية.
كما شددت على أهمية توقيت تناول الحلوى، حيث يُفضل أن تتناول الحلوى بعد الطعام، وليس على معدة فارغة لتجنب ارتفاع السكر المفاجئ بالدم، كما يفضل تناوله خلال النهار ومع ممارسة الرياضة.
وحذرت السفطى، من شراء «حلاوة المولد» من مصادر مجهولة أو ما يُعرف بـ«حلاوة تحت السلم»، مؤكدة أن اكتشاف وجود مواد سامة فى هذه المنتجات لا يتم إلا بعد ظهور الأعراض والمضاعفات، ما يجعل الوقاية ووعى المستهلك أمرًا بالغ الأهمية.
وأكدت أنه فى حال ظهور أعراض حادة كالإسهال أو القيء أو فقدان التركيز، يجب التوجه فورًا إلى المستشفى لإجراء الإسعافات الأولية ومتابعة الأعراض وضرورة إحضار عينة من الحلوى التى تم تناولها لعرضها على الأطباء لتحديد نوع المادة المسببة للتسمم.
اختتمت السفطى تصريحها بالتنبيه إلى أهمية مراقبة الأطفال عند تناول الحلوى، وعدم اللجوء إلى إسعافات منزلية فى حال الاشتباه بالتسمم، بل التوجه مباشرة لأقرب مركز طبى، لأن التأخير قد يؤدى إلى تفاقم الحالة ووصولها إلى مراحل خطيرة.
عقوبات الغش غير كافية
قال عصام محمود، الخبير القانونى، إنّ الغش التجارى يعد من الجرائم الخطيرة التى يحرص القانون المصرى على مكافحتها حفاظًا على صحة وسلامة المواطنين، وضمانًا لاستقرار الأسواق. وقد نظم المشرّع المصرى عقوبات الغش التجارى من خلال عدة قوانين، أبرزها قانون حماية المستهلك رقم 181 لسنة 2018، وقانون قمع الغش والتدليس رقم 48 لسنة 1941 وتعديلاته.
وأضاف «محمود»، أنّ وفقًا لقانون حماية المستهلك، فإن عرض أو بيع أو الإعلان عن منتج غير مطابق للمواصفات أو مغشوش يعرض مرتكب الجريمة لعقوبة تصل إلى الحبس مدة لا تقل عن سنة، وغرامة مالية لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مليون جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين. وتُضاعف العقوبة فى حال تكرار الجريمة، بما يعكس تشدد المشرّع فى ردع المخالفين ومنع التلاعب بالسلع والمنتجات المتداولة فى السوق.
وتابع: أما فى إطار قانون قمع الغش والتدليس، فإن من يثبت عليه تهمة غش أو محاولة غش سلعة مخصصة للبيع، أو تداول سلع مغشوشة أو فاسدة، يعاقب بالحبس لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، بالإضافة إلى غرامة مالية تبدأ من عشرة آلاف جنيه وقد تصل إلى ثلاثين ألف جنيه. وتزداد العقوبة فى حال تسبب الغش فى أضرار جسيمة، مثل التسمم أو الوفاة، لتصل إلى السجن المشدد أو حتى الإعدام إذا اقترن الفعل بتعمد واضح وسابق إصرار.
واستكمل: كما تُشدد العقوبات بشكل خاص إذا تعلق الغش بمنتجات غذائية أو أدوية أو مستحضرات طبية، نظرًا لما تمثله هذه الفئات من خطر مباشر على الصحة العامة. وفى هذه الحالات، قد تصل العقوبة إلى السجن المؤبد أو الإعدام إذا نتج عن الغش وفاة، خاصة إذا ثبت وجود نية للإضرار أو تقصير جسيم، علاوة على العقوبات الجنائية، يخول القانون للجهات الرقابية اتخاذ إجراءات فورية ضد المخالفين، تشمل مصادرة المنتجات المغشوشة، وغلق المنشآت، ونشر الحكم القضائى فى وسائل الإعلام على نفقة المخالف، كوسيلة للتشهير والردع المجتمعى.