من باريس إلى كوبنهاجن.. استدعاءات واعتذارات تكشف ارتباك دبلوماسية «ترامب»

يقوم مبدأ أساسى فى الدبلوماسية على تجنب استعداء الخصوم دون مبرر، غير أن إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تجد نفسها فى قلب أزمة متكررة، حيث يتعرض مبعوثوه، سواء كانوا من رجال الأعمال أو المقربين شخصيًا، إلى مساءلات متزايدة من حلفاء تقليديين لواشنطن فى وقت تواجه فيه الولايات المتحدة حربًا تجارية محتدمة مع الصين وتوترات خارجية متشعبة.
وفى هذا الأسبوع وحده، اضطر ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين إلى التعامل مع مواقف محرجة أثارت جدلًا واسعًا. فقد استدعى وزير الخارجية الدنماركى كبير المبعوثين الأمريكيين فى كوبنهاجن على خلفية تقارير أفادت بأن ثلاثة أشخاص على صلة بترامب يمارسون أنشطة نفوذ سرية فى جرينلاند، الإقليم الدنماركى الواقع فى القطب الشمالى. أما فى فرنسا، فقد استدعت وزارة الخارجية السفير الأمريكى تشارلز كوشنر، صهر ترامب، بعد رسالة وجهها إلى الرئيس إيمانويل ماكرون اتهمه فيها بالتقاعس عن مواجهة معاداة السامية. وفى لبنان، اعتذر السفير الأمريكى توم باراك، صديق ترامب القديم، بعد أن وصف صحفيين بكلمة «حيواني» خلال مؤتمر صحفى فى بيروت.
لكن إدارة ترامب لم تبدِ فى حالتين من الحالات الثلاث أى استجابة واضحة. ففى باريس، تغيب كوشنر عن الاستدعاء تاركًا نائبه يواجه الموقف، بينما شارك كبير الدبلوماسيين الأمريكيين فى كوبنهاجن فى اجتماعه وأصدرت الخارجية الأمريكية بيانًا مقتضبًا تحدث عن «محادثة مثمرة». إلا أن تعليقا غير معلن صدر فى واشنطن على لسان مسئول طلب عدم الكشف عن هويته عكس روح التحدى، حيث قال: «إن الدنماركيين بحاجة إلى الهدوء». وهذا بحسب تحليل نشرته صحيفة اسوشيتدبرس.
هذه الحوادث لم تكن استثناء بل جزء من نمط اتسع خلال سنوات ترامب، إذ كثيرا ما أثارت تصريحات وتصرفات مبعوثيه استياء الحكومات الأجنبية، حتى وإن بدت بعض المواقف ثانوية فى ظاهرها. لكنها تعكس نهج ترامب القائم على «أمريكا أولًا»، ولغته المباشرة تجاه الصحفيين، ورغبته فى كسر الأعراف الدبلوماسية، وهى كلها أمور تروق لقطاعات من قاعدته السياسية. وزارة الخارجية لم تقدم سوى الحد الأدنى من الردود، مؤكدة دعمها لرسالة كوشنر إلى ماكرون، ومشددة فى قضية جرينلاند على أن الحكومة الأمريكية «لا تتحكم أو توجه تصرفات المواطنين العاديين».
فيما نفت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلى أن تكون هذه التوترات قد أضعفت موقع ترامب عالميًا أو قلصت ثقته فى مبعوثيه. وقالت: «لقد أعاد ترامب مكانة أمريكا على الساحة العالمية، وإنجازاته فى السياسة الخارجية خير دليل على ذلك»، مشيرة إلى اتفاقياته التجارية، وضرباته ضد المنشآت النووية الإيرانية، وإطلاق سراح أمريكيين معتقلين. وأضافت: «لديه ثقة كاملة بفريقه بأكمله للمضى قدمًا فى أجندة السياسة الخارجية القائمة على مبدأ أمريكا أولًا».
غير أن موجة الاستدعاءات الأخيرة سلطت الضوء على واقع لطالما أثار الجدل فى الدبلوماسية الأمريكية وهى منح المناصب الحساسة لمتبرعى الحملات الانتخابية وأصدقاء ترمب بغض النظر عن خبراتهم. وخلال فترة ترامب الأولى، أثارت شخصيات دبلوماسية استياءً متكررًا فى بلدان مثل ألمانيا وأيسلندا وجنوب أفريقيا وحتى الاتحاد الأوروبى، ما دفع حكومات تلك الدول إلى رفع شكاوى رسمية أو خاصة. أحد المسئولين السابقين فى الخارجية الأمريكية كشف أن ترامب كان يستمتع بالتغطية الإعلامية المثيرة التى تولدها مثل هذه الحوادث، وغالبًا ما كان يبعث برسائل تهنئة لسفرائه حين يجد أفعالهم صدى إخباريًا.
الاستثناء البارز كان فى قضية السفير لدى الاتحاد الأوروبى جوردون سوندلاند، الذى أقاله ترامب عقب إدلاء الأخير بشهادته أمام الكونجرس خلال إجراءات العزل الأولى المرتبطة بأوكرانيا. حينها طُرحت أيضًا قضية إقالة مارى يوفانوفيتش، سفيرة واشنطن فى كييف، التى قالت إنها تعرضت لضغوط لإظهار الولاء لترامب، فيما عقّب الرئيس فى مكالمته مع نظيره فولوديمير زيلينسكى قائلًا: «ستواجه المرأة بعض الصعوبات».
اللافت فى التطورات الأخيرة أنها جاءت فى وقت حساس، حيث تتنافس واشنطن وبكين على النفوذ الاقتصادى العالمى وسط أحاديث عن لقاء مرتقب بين قادتهما فى الخريف المقبل. وفى السياق أكد إيفر ب. نيومان، مدير معهد فريدجوف نانسن فى النرويج إن إدارة ترامب محقة فى أن التنافس الأمريكى الصينى هو المحور المركزى للشؤون الدولية، لكن من أبرز مزايا الولايات المتحدة امتلاكها شبكة واسعة من الحلفاء، فى حين لا تملك الصين سوى كوريا الشمالية. إن السياسة الأمريكية الحالية تُنفر الحلفاء عمدًا، ما يهدد بخسارتهم.
وبالاشارة إلى الأزمة مع فرنسا بدأت بعد قرار ماكرون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خطوة أغضبت إسرائيل وواشنطن معًا لأنها أعادت طرح خيار حل الدولتين. رد كوشنر فى رسالة نشرتها «وول ستريت جورنال» زعم أن هذه المواقف تشجع المتطرفين وتغذى العنف وتعرض حياة اليهود فى فرنسا للخطر وودعا ماكرون إلى التراجع عن خطوات تمنح الشرعية لحماس وحلفائها.
واعتبر الباحث يون صن من مركز ستيمسون فى واشنطن أن هذه الأحداث قد لا تدفع مبعوثى ترامب إلى تغيير سلوكهم، لكنها بمثابة إنذار للدول الأخرى. وقال: «الكرة الآن فى ملعب هذه الدول لتقرر إن كانت ستجازف بعلاقاتها مع الولايات المتحدة بمزيد من التوترات»، مضيفًا أن ذلك «قد تكون له تداعيات خطيرة فى ملفات أكثر أهمية».