قطوف
رائحة كريهة!

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

حين يبذخ الندى في عطائه الصباحي، وتأذن مملكة الشمس بمرور نسمة بعد النظر في أوراق هجرتها، كانت تبيع مع حبات الفول قطرات عَرَقٍ متلصصة بين ثمرة الطماطم وأوراق الخس، تسترق السمع إلى حكايات الشارين؛ من شاك زوجته إلى صديقه، ومن امرأة ترفع يديها إلى الله لدَيْنٍ لا يصبر صاحبه.
كانت ابنتها أولَ مَن تنبَّه. عيناها واسعتان تأكلان نصف وجهها الطفولي، ذات أنفٍ مبطط، ورأس منكوش الشعر ناعمه، وفم دقيق، وثغر متبسم مذهول. في يدها دميتها غجرية الشعر مثلها، ولأنها تحادث الدمى، لم يصدِّقْها أحد!
هزَّت أمَّها وهي تُعِدُّ شطيرة. انزلقت مغرفة الفول، لسعَتْ يدها، صفعت الأم الابنة على خدِّها، فتشكل وجهها من جديد حول الأصابع الخمس، كأنه جهاز كشف بصمة. لم تعبأ الابنة بالصفعة، ولا بحبَّات الفول الملقاة على الأرض، ولا بالمغرفة التي لمست جدار قدمها، فتركت عليه لثمة بين نتوءات شبشبها المفرَّغ، بل أزاحت قدمها للوراء. وواجهت أمها، وقالت كلمتها التي ستصبح شائعة بعد قليل: «ما تلك الرائحة الكريهة»؟
تشهر أمها سيف أنفها تُمعِن في التركيز. لم تجد غير رائحة البصل والطماطم والطعمية والبيض، وغَضَبِ الجالسين أمامها الذين عطَّلهم المشهد الدرامي عن تأبُّط طعامهم، والسفر به عبر انبساطات الريح، على هدير موج البحر الذي يشكل المطعم شاطئه القريب.
- أي رائحة يا مجنونة؟!
البنت وقد أخرجت منديلها المهترئ، ووضعته أمام أنفها المزكوم، محاولة استجماع منطقها: «رائحة سيئة جدًّا».
تدفع الأم الشطائر على الطاولة يتلقفها أبناء الحي، تأخذ ابنتها من يديها سحبًا إلى الخارج، حيث الرصيف الضيق، ترى الابنة تلاطُمَ الماء على الصخرة القريبة يشبه قطيع ثيران ينطح بقرونه الصخرة فتتحطم رؤوسه وتندفع الدماء عديمة اللون في كل مكان.
تُوقِفُها الأم قرابة نورس يحك جناحه على الصخرة القريبة: «أين هذه الرائحة. الجو صحو».
الابنة وهي تشير إلى لا شيء: «ألا ترين الأبخرة، الدخان يملأ كل شيء».
تسرَّب إلى الأم شيء من القلق مع رذاذ الماء المندفع، الآتي من ناحية البحر، تقف حائرة قليلًا، حتى تتلقفها جارة تسرع إليها تحتضنها. وتتبادلان حديث الشارع، تبتسم الجارة، وتهبط على نصف ساقٍ لتحية الابنة الصغيرة: «أهلًا يا (مفعوصة)، لماذا تضعين منديلًا فوق أنفك؟!». ترفع الأم جارتها من وضع الركوع، وتقصُّ عليها، تتضحكان معًا، وترجع سريعًا إلى محل الشطائر، تترصد النقود المهترئة المتعرقة.
في المساء... بتلك العشة القريبة من البحر، التي يعنُّ له أن ينفخ فيها من صدره الواسع، تلتحف الابنة والأم بغطاء ممزق قابضتَيْن على عنق الدفء، رغم غطاء يكشف معظمهما... مجدولتين مثل كائنين بحريين يتربصان بالطعام.
والأب العجوز المريض هَيْكل على «كنبة» لا يغادرها، صحوه نوم، ونومه سكرات ميت. يستيقظ مبكرًا ليعيد دورة الموت والحياة في اليوم الواحد بضع عشرة مرة.
حين مات أبو بائعة الشطائر، كانت تُسمَّى سعاد، وليست - كما الآن - أم إيمان؛ الأسماء تزييف لحقائقنا، عناوين عريضة لمضمون واهٍ، نتخفف بها من عبء مواجهة ما نحن عليه!
لم تكن قد فكَّت ضفائرها بعد، طلبها ابن عمها الذي أنقذ عائلتها من وهدة الفقر، كان فارق السنِّ كبيرًا لم تفلح محاولاته الهادئة في تجسير هوة البحر الذي يفصل بينهما، ظل السنُّ عائقًا حينما كان يطلب منه أحد شباب القرية الزواج بها ظنًّا أنها ابنته.
وذات صباح عادي للغاية، كاد يُسلِم روحه. «جلطة» أوقفت قلبه، ثم عاد بمعجزة سماوية، وكمن ينسحب من الموت، لم يكن يزيد عن كلمات بسيطة يعلن بها حاجته للطعام، وينام من فرط الإجهاد. ذهبت الأموال، وبقي العجوز مجرّدًا من مملكته، شجرة أسقطت أوراقها الخريفية.
تتسلّل الابنة من تحت الغطاء إلى موضع مغيب الشمس قرابة الدار، تتشمم الرائحة، وتتبعها، تحملق في الظلام، تتهادى إلى فناء الحارة القبلية، تدخل إلى ماسورة الماء التي تردها النساء لحاجاتهن، غير أنها تعود جارية إلى العشة، تجد أمها بين الصحو والنوم تسألها عن سبب خروجها، فتخبرها أنها الرائحة.
في اليوم التالي ظلَّت الطفلة واضعة منديلها كما الكمامة تحاول اتقاء شر الرائحة، تجلس إلى جوار الأم تتأملها وهي تعالج شطائر النائمين بسرعة، كلما سأل أحدهم عن سر الابنة وغطائها، آثرت الأم الصمت، سرت شائعة بأن الابنة مريضة، تناقص عدد الواردين إلى المحلّ في ذلك اليوم، آخر ما ينقصهم عدوى جديدة!
علمت الأم، وانهالت على الابنة المستسلمة بشتائم ولعنات، لكنها لم تقوَ على رفع اللثام عن وجهها.
شيء في قلبها كان يُنبِئها بأن ابنتها لا تدعي ذلك.
في المساء، أحسّت الابنة بالأبخرة يدًا تلوِّح لها، تحركت على أطراف أصابعها مقلدة لاعبة باليه، إلى خارج العشة، إلى رصيف البحر بمحاذاة القرميد الذي يشكل سدًّا تافهًا لمياه تتجاوزه، نزلت إلى فناء الحارة، متوجهة إلى صنبور المياه العتيق، وقفت في وسط الظلام مادَّةً أنفها، أمسكت به مؤكدةً لنفسها أن الرائحة تنبع من هذا المكان، ولما همَّت بالتحرُّك، توقفت أنفاسها، حملقت في الظلام، يد بيضاء رفيعة امتدت إليها.
تراجعت خطوتين، أخذتها الرعدة.
لكن العجوز ابتسمت، وظنَّت الابنة أنها سمعت في الظلام: «لا تخافي يا بنيتي».
أمسكت العجوز بيد الابنة في حنان، وغطاهما الليل بغلالة من السواد المتكاثف.
في الصباح استيقظت الأم برأس مثقل بهموم العيش، مدَّت يدها لتوقظ ابنتها في غلظة ألفتاها معًا، انسابت يداها على المفرش المبقع بالزيت، وصلت إلى نهايته، ولم تكن الابنة متحيزة في موضعها المتأرجح من السرير. تنبهت بغتة. أيقظت العجوز المستسلم، سألته عن ابنتها، فأجاب بكلمتين. «لا أعرف»، ثم أخلد إلى النوم.
قفزت إلى الأرض، وسحبت الباب قبالتها، خرجت إلى الشارع، أطياف الناس بدأت تنتشر، النور يكاد يغزو حِجر الماء، وطائران يتسابقان في استرخاء، وشراع أبيض بعيد يطوي الشمس وراءه. ولم تكن الابنة هناك.
بِلَوْعَةِ أم انتفضت بملابسها المكشوفة، يتأملها أهل الحارة الذين يعرفونها، من هلعها عرفوا المختبئ في طيات نفسها، تسابقوا على البحث عن الابنة. يعرفون أنهم سيجدونها هنا أو هناك، كعادتها في الاختباء من أمها ساعة الضرب. والأم برعب مضاعف تتصاعد في جوفها حرقة المعدة، مع حرقة القلب، ماذا لو... ثم تطرد الأفكار كلها من عقلها الخاوي!
حين أعيتهم تلافيف المدينة وانحدارات القرميد مع الأسفلت، وتحيات المياه الطائشة للسور المترفع قليلًا عن مساواة البحر كتفًا بكتف، تمددت الأم المهتزَّة على مركب ملقًى إلى جوار البحر لم تلتقطه يدُ غاصبٍ، مخدَّرة العقل والأطراف. يبزغ السؤال أقوى: ماذا لو؟!
رفعت رأسها للسماء، مغمضة العينين، تحسم خياراتها. وترتب أوراقها، قفزت إلى محلِّها، كيف لم تفكر فيه؟!
حين وصلت إليه لم تكن البنت هناك، مسرعة إلى البيت، لم تكن الابنة هناك أيضًا.. تكورت على نفسها وأغلقت باب العشة، تسمع حسيس نيران البحر في الخارج، وفوران قلبها، وغليان عينيها، يخبرها رجل بجوار الباب أنهم أبلغوا الشرطة، وأنه لم يمر على اختفاء الابنة يوم كامل حتى يُقيَّد البلاغ. والزوج واهٍ منهار إلى جوارها، أضعف حيلة من باب الغرفة الذي لا يستر.
كيف مرَّ الليل عليها مرتبكًا على غير عادته. لم يزرها النوم، ولم تسكن حركتها، ولم تشعر بثديها يهتزّ، قالت لها أمها إن الأم التي تضيع فلذتها يُؤْلِمُها ثديها، موضع الرضاعة. لا بد أن ابنتها حية في مكان ما. رسخت في وجدانها هذه العبارة. فتشت تحت السرير وبالدولاب. قررت أن تكمل بحثها مرَّة أخرى.
اتجهت إلى داخل الفناء، أناس يقفون يتحادثون، يشيرون إليها ويتنهدون، يتباكون من أجلها. غير عابئة بهمزات الوصل والقطع، وراء اثنين من مثقفي القرية، التقطت أذنها عبارة أحدهما: «وكانت تشم رائحة كريهة»!
إلى صاحب الصوت، صرخت: «عمَّن تتحدث». صدمت الرجل الذي لا يعرفها؛ فلم يجب فورًا، ثم أخبرها بالتدريج أن «حماته» مختفية من أمس، وكانت منذ يومين تدعي أنها تشمُّ رائحة كريهة.
ابتلعت الأم ريقها مسرعةً قاصَّة عليها ادعاء ابنتها المختفية أنها كانت تشم رائحة كريهة هي الأخرى.
ساد العجب. حين صرخ النجّار في العطفة المجاورة للحارة بأنه سمع عن طفلة في الجهة الأخرى من القرية تدعي وجود رائحة كريهة أيضًا. سحبته من عنقه الأم المرتعشة.. كيف طاوعها؟!
سار معها نحو نصف ساعة، حتى دلها على البيت، بقبضتيها الاثنتين كادت تخلع الباب من مجراه، لم تشعر بألم لكنها رأت الدم ينساب من إحداهما، فتح رجل أربعيني الباب وراءه زوجته يكسوهما الخوف، اعتذر النجار عن تصرف أم إيمان، وبادر بالحديث، والجمهور وراءهم، مشهد مسرحي أوشك سر الحبكة فيه أن يظهر.
هز الأبوان رأسيهما، مؤكدين أن ابنتهما منذ يومين تشمُّ رائحة كريهة، قال أحد المجتمعين عند الباب: مثل أمي!! التفتوا إليه، ثم إلى الرجل، يطلبون منه أن يروا ابنته، أخذت زوجته، أم إيمان من يدها، شاعرة بأوجاعها، وقد تسرب القلق عبر المرأتين كأنه مجال كهربي يوشك أن يضيء القرية بأكملها. دلفت معهما إلى غرفة نوم الطفلة، ولم تكن الطفلة هناك.
ارتاب الأب قليلًا والأم كثيرًا، وهرعا إلى غرفة الاستقبال ثم إلى الحديقة الخلفية في المنزل الثري، كان كل شيء كما هو سوى الابنة.
متى كانت آخر مرة رأيتماها؟!
أمس عندما نامت!
ذهبت أثناء الليل.
لعن الأب من قالها، رافضًا أن يصدق، يجري الجميع في كل مكان، كأنهم نمل امتلأ مسكنها بالماء، توجهت نحو الشاب الذي أكد أن أمه تشمّ هذه الرائحة. طلبت منه أن يذهبوا إلى أمِّه، فأخبرهم بأن صحتها ليست على ما يرام، ألحوا عليه، فرفض. لكنه تراجع قليلًا عندما أحسّ أن الأمر قد يأخذ منحًى عنفوانيًّا هددت به الأعين المحدِّقة التي تكافئ أنهار جحيمها زبد المياه وراءهم.
كانت أم إيمان أوَّل من جلست على طرف الفراش الذي تتأوه العجوز لمجرد أن تتغير طياته، هشاشة جسدها أشبه بكأس رقيقة، تخشى أن تلمسه، وعروقها نافرة زرقاء تبدو من تحت الجلد كما لو كانت خريطة ممرات في جهاز تحديد المواقع!
تكلمت بصوت خفيض: «أتشمُّون الرائحة»؟!
بدأ حفيف حديثها موترًا للجوِّ المتوتر بالفعل، ازداد الهرج، أسكتتهم المرأة، ثم سألت العجوز: «أي رائحة يا سيدتي؟!»، لم تنطق العجوز وراحت في سبات عميق.
حين خرجت بائعة الشطائر بذهن يشبه شاشة التشويش، لم تكن تتوقع ضربة كعب البندقية التي تلقتها على وجهها، وكسرت وجهها الأنيق، وأغرقته بالدماء. ما آلمها حقًّا هو صراخ الرجل الأربعيني متهمًا إياها بأنها في تنظيم لخطف الأطفال، وأن كل ما يحدث من إخراجها، وبطولتها.
رغم ألمها، أسعدها هذا الحديث، فانفعال الرجل هدّأ بعض انفعالاتها؛ مصابها صار مصاب غيرها، والآن وقت الجميع في التفكير. وابنتها لم تهرب بسبب ضربها كما تصورت في البداية، لأن هذين الأبوين اللذين يخصصان حجرة بكاملها وحديقة للهو الابنة، بالتأكيد لا يضربان. كيف هدأت جوانحها؟! لا يكون حزن ابن وحيد فَقَد أباه مثل حزن رجل له من الإخوة سبعة، الحزن يتفاضل لا على قدر المفقود فحسب، بل على المشاركة في الهمّ، لن ينتهي قلقها وبكاؤها، لكن على الأقل ستتمكن من النوم هذه الليلة بقلب واجف وعين تستيقظ كل دقيقة، وأذن تتنصت على ما وراء الحائط، هذا ما قالته لنفسها بينما كانت النسوة يطببن جراحها، والرجال يمسكن بتلابيب الرجل يوبخونه على فعلته العنيفة.
صداع غشيها، دخلت عشتها، لوهلة نادت على ابنتها لتعدّ طعامًا، نسيت أن الطعام لن يجد من يعده، تنبهت فدمعت، جلست قليلًا، مرَّت بها لقطات خاطفة، صور عابرة، وذكريات مختزنة، أطلق رأسها شريطًا سينمائيًّا، فيه الطفلة تكبر، زهرة برية ترويها بالدموع، تمدّ يديها تفرد الأم تغضُّن وجهها براحة ابنتها، تتذكر عنفها معها، تودّ لو أن يديها تنقطعان، مثل انقطاعها وحيدة مع زوج حي - ميت، أدارت بومة رأسها إليها، فصرخت، تحشرج الصوت، وضعت أصبعها في فمها تحاول أن تقيء الكلمات، فلا يخرج شيء، ارتفع صوت الصراخ من حولها، فقامت من نومها مفزوعة. كان الليل قد منح جسد السماء العاري جلبابه الأسود، رجال ونساء يندفعون من أي مكان إلى أي مكان، يرفعون مشاعل نار أحرقت بشرة السماء الرقيقة، تأوهت السماء ونزفت مطرًا قليلًا من أعلى، أطفأ بعض المشاعل، أسرع أصحابها لإعادة إيقادها. خرجت مثل مومياء فرعونية قديمة، تتناسب الصورة مع هيئتها المزرية وجسدها النحيل الممصوص، زائغة العينين وسط العشرات الذين ينبشون بلاطات الطريق، ويقلبون البحر، ويعيدون تكوينه. البعض أشار إليها بريبة، وتحدث بصوت خفيض.
سألت أم إيمان امرأة تتفرج مثلها على موسم الهجرة إلى المجهول، أشارت إلى أنها لا تعرف، أوقفتا امرأة ثالثة، فقالت لهما إن خمسة أطفال اختفوا بالإضافة إلى رجل وامرأة عجوزين، العجيب أن الجميع قبل اختفائهم كانوا يشمون رائحة كريهة. كانت المرأة العجوز المختفية مؤخرًا هي التي أنذرتها صباحًا من سوء الرائحة.
جرت معهم دلفوا إلى زوايا القرية حاراتها عطفاتها، ساحاتها، دقوا على الأبواب، تكاثرت الشجارات، مضت في قافلة الذاهبين، تنظر ولا تتكلم، تجري، ولا تعرف إلى أين توجهها قدماها، أين تلك الرائحة، أين ابنتها؟! أين العجائز والأطفال. ثم تنبهت بغتة!!!
لم يمض إلى أرض العدم هذه سوى الأطفال والعجائز. لمَ؟!
لمعت الفكرة في رأسها!
أسرعت في الاتجاه المعاكس وسط طوفان البشر سمكةً تعاكس التيار، ترفرف بأهداب ثوبها يمنة ويسرة، تشق طريقًا لها عبر المشاعل إلى البيوت التي تركوها وراء ظهورهم، تعرف مطلبها. في عشَّتها، مرت إلى جوار شجرة زيتون مثمرة، مثل سهم خرج من قوس راميه فلم يعد يتحكم فيه أحد. ركلت الباب نصف المفتوح فأطاعها مصدرًا صريرًا يشبه صوت كلب عرف جديَّة خصمه فانصاع، انكشفت صالة ففضحت ما يشبه غرفتين في اتجاه رأسها، جرت إلى الثانية منهما. وجدت ضالتها على اليسار متلحفًا بعباءته الثقيلة، منكِّسًا رأسه في شال صوفي ضيِّق، هزّته في شدّة، ثم كأنها تذكرت فهزته برقة، فتح عينيه، تلألأ في الظلام وجهه المنكمش معلنًا عن ملامح عجوز يحمل مقدارًا من الطيبة، وقدرًا من وسامة ما زالت تتريث قبل الرحيل، أدار رأسه للمرأة التي أعطته ثمرة قلبها ثم جهد يديها، ألقت زوجته ما في جعبتها على الفور:
-تشم الرائحة. أليس كذلك؟!
في لهفة وودّ، محيطة برأس العجوز لتساعده على أن يعتدل في جلسته، أجاب وهواء فمه يخرج من بين الأسنان التي تركت موضعها ضعيفًا خافتًا:
- منذ يومين. لا تفارق أنفي!
في قلق تسأل: من أين تأتي؟ من أين تشعر بها؟!
يشير زوجها العجوز: «الدخان يأتي من ناحية السوق القديمة».
تترك رأسه فجأة، يتأوه العجوز ولا تنقشع ابتسامة رضا سكنت زاوية فمه. تخرج المرأة مترنحة إثر قيامها المفاجئ، تجري إلى رصيف البحر تعبر عشتها الخاوية، محاذية الحارة تاركة جماهير البشر وهم ما زالوا يتناوشون ناحية اليمين، دالفة إلى موضع صنبور المياه، ثم منه إلى العطفة البعيدة، خائضة في الظلام الموحل، كأنما تمخر وسط إسفلت لم يجف، لم ترَ شيئًا. تلمسَتْ لم تحس بوجود شيء، فأنصتت، لم تعد تسمع جماهير البشر الغاضبة، ولم تعد ترى لهيب المشاعل، أزالت كل الصور إلا ابنتها، وركزت عقلها في هذه النقطة لا غيرها، لا طريق تلجأ إليه، ولن تخرج من هذه الظلمة الأبدية. قررت أن تكمل طريقها. بدأت تنساب في أنفها رائحة مؤذية، سعلت ثلاث مرات، تشممت. الآن هي تشم الرائحة بكل وضوح، لم تظنّ من قبل أن ستسعدها رائحة كريهة؛ رائحة عفونة الموت، رائحة مخدر عمليات، رائحة جوارب لم تغسل، ونساء لم يمشطن، وتحلُّل أمل، وبقايا خوف، وفاكهة معطوبة، وملابس لن تُغسَل. خفتت الرائحة ثم تلاشت. وجدت يدًا بيضاء رفيعة خارجة من الفراغ، تمتد إليها، لم تتراجع، ولم ترتعش، هفا قلبها، انتفض جسدها على غير خوف، كأنها ترفض ملامسة الهواء الذي بدا كما لو كان لزجًا يشرنق جسدها الراقص، تنفتح الصورة المغبَّشة، تشبه غيبوبة الصحو، وضباب الرحلة. كأن الظلام ستارة شفافة لا تستر أكثر مما ينبغي. كأنه لوحة بيضاء خُطّ عليها الأمل، بعينين متفحصتين ترى وراء اللوحة عجائز وأطفالًا يضحكون، ارتفعت قدماها عن وحول الشارع، ودخلت في الصورة بجسدها، رذاذ على الجهة الأخرى، شمَّت نسيم البحر وضحكة النوارس، على ضفاف الوعي، قبل أن تسلم للفَجْر روحها سمعت صاحبة اليد الرفيعة تهمس في أذنيها: «لماذا تأخرتِ»؟! ردَّت بفم منغلق، وعقل مفتوح على المجهول: «كنتُ أبحث عنكم». وقبل أن يحرق بيتها الغاضبون لمحت وراءها زوجها العجوز سائرًا على قدمَيْ المعجزة، مقتربًا من يد بيضاء... كان آخر من شمّ الرائحة!