قطوف
طريق أخرى للعودة
من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع.. هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم

والروح مني تخرج إلى هناك، هناك الذي لا أعرفه، يحملونني على حامل خشبي.. ممددة أنا بلا حراك، لكني أسمعهم جيداً.. أشعر بقلوبهم التي تبكي، وقلوب بعضهم التي لا تشعر بشيء تجاهي.
أنا في طريقي إلى مدافن عائلتنا كما أوصيت.. أشعر بذلك، بل وأسرع إلى هناك لا أدري كيف، ولكني أفعل.
أسمع من بعيد أصواتًا مهللةً ومكبرة.
أظنهم في انتظاري، تطغى أصواتهم على أصوات المحيطين بي.
يفتحون باب المقبرة، ويسكنوني بين أجدادي، وبعض أعمامي وعماتي.
لا أرى حدوداً ولا فواصل، يغلقون عليّ الباب ثم يذهبون.
يشتد النحيب.. لا أريد سماعهم الآن.. أنا هنا بين أحبتي .
لا كره هنا ولا حقد .. لا شيء سوى الحب والترحيب ممن حولي.
ليس هناك عذاب.. إنها الجنة على بعد بعيد.. أراها هناك، أرى الخضرة والأنهار، وأشم رائحة لا توصف.
لا أرى الدنيا أبداً، لا أرى أولادي الآن.
هناك ملائكة أجيب عن أسئلتهم كي أستقر في مكاني استعداداً للرحيل كما أخبروني.
يسألني أهلي من حولي عمن في الدنيا منهم، فأخبرهم بأحوالهم.
لا أخاف الليل كما ظنوا، ولا أشعر الآن بذلك الألم الذي شعرت به عند اصطدام سيارتي بأخرى.. تجاوزت كل شيء، وأستمتع الآن باحتفائهم بي.
لا أعرف إن كانت الروح تسكنني، أم أنها ذهبتّ منّي حقاً، أظن أحياناً أنها عادت إليّ عندما أغلقوا عليّ القبر، وأظن أحياناً أخرى أنها لا تسكنني، لكني أسمع وأشعر، ولكن بلا إرادة، ولا قدرة على التعبير، ولا قوى على الحركة.
عالم غريب أحببته، وخشيته في ذات اللحظة، فهنا كل شيء مختلف، كلنا في انتظار القيامة.. البوق الذي سنسمعه جميعاً كي نهرع إلى هناك، كلهم هنا يتحدثون عن ذلك.. يتحدثون بلا حديث، ولا أصوات، ولا حراك، ولا ألسنة، فكلها ذابت وتحللت في التراب.
عليّ أن أهدأ الآن كي أترك البكتيريا تقوم بعملها دون إزعاج، فهي مأمورة بذلك، فلا اعتراض.
أنا أصلاً لا أحتاج لجسدي، فالجميع هنا هياكل عظمية خاوية من كل ما كان يكسوها، ويسكنها.
لا فرق هنا بين ليل ونهار.. أرى ما هو أجمل من السماء ونجومها، وآنس بمن حولي، وتضيء لنا أدعية الأحياء القبر.
ها هو دعاء أمي يملأ قبري نوراً، وذاك الشعاع الآتي من بعيد هو دعاء أبي.. يخفت كل ذلك قليلاً ببكاء أبنائي، فيسطع مرة أخرى بدعاء طيب من زوجي المحب.
سأسكن الآن.. مأمورة أنا بذلك.. أنتظر أحبتي بشوق، فالموت ليس بشر كما ظننا.. ليس شراً إطلاقاً.