ترامب يراوغ فى البيت الأبيض

وعود أمنية غامضة وضغوط متبادلة بين زيلينسكى وبوتين والأوروبيين
وصف لقاء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مساء أمس الأول بالرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، وعدد من قادة أوروبا فى البيت الأبيض بالودية لكنها خرجت فى النهاية بلا نتائج ملموسة لإنهاء الحرب الروسية فى أوكرانيا، الاجتماع الذى جرى بعد أيام قليلة من قمة ألاسكا بين ترامب ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، بدا أقرب إلى تمرين على إدارة الأزمات أكثر من كونه خطة واضحة لإنهاء الحرب، حيث تركزت المناقشات على الضمانات الأمنية التى يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية لكييف إذا ما وافق زيلينسكى على اتفاق سلام، فيما تحدث ترامب هاتفيًا مع بوتين لتمهيد الطريق نحو لقاء ثلاثى محتمل، لم يُحدد موعده ولا تأكدت جدية انعقاده ولكن ترددت أنباء عن انعقاده آخر الشهر الحالى.
منذ اللحظة الأولى، بدا ترامب راغبًا فى إظهار صورة القائد الذى يمسك بخيوط التفاوض، لكنه فى الواقع ترك كثيرًا من الأسئلة بلا إجابات، فقد قدم القادة الأوروبيون جبهة موحدة نسبيًا، رغم بروز خلافات واضحة، المستشار الألمانى فريدريش ميرز، شدد بقوة على أن وقف إطلاق النار يجب أن يسبق أى مفاوضات مع موسكو، وهو ما رفضه ترامب بحزم، فى إشارة إلى أنه بات أقرب إلى الطرح الروسى الذى يفضّل التوصل إلى اتفاق شامل لا يشترط وقف القتال. أما الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فعبّر عن شكوكه قائلًا: «لست مقتنعًا بأن بوتين يريد السلام أيضًا».
وعندما واجه ترامب أسئلة من الصحفيين فى المكتب البيضاوى بشأن إمكانية إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا كجزء من قوة لحفظ السلام، تهرّب من الإجابة المباشرة مكتفيًا بالقول إن الولايات المتحدة «ستساعدهم»، لكن الضغط الأوروبى تصاعد للمطالبة بضمانة أمنية تشبه المادة الخامسة من ميثاق الناتو، أى أن أى هجوم على أوكرانيا يُعتبر هجومًا على جميع دول الحلف، رد ترامب بقى عائمًا وغامضًا: «سنوفر لهم حماية جيدة جدًا وأمنًا جيدًا جدًا»، أما زيلينسكى، فقد عبر عن موقفه بلا مواربة حين قال: «كل شيء»، فى إشارة إلى أنه يريد أوسع نطاق ممكن من الالتزامات الأمنية.
أعلن ترامب عبر منصاته الإلكترونية أنه تحدث مع بوتين هاتفيًا لبحث ترتيب لقاء يجمعه بزيلينسكى، مؤكدًا أنه مستعد لعقد جلسة ثلاثية لاحقًا، لكن الموقف الروسى ظل ملتبسًا، حيث وصف مساعد بوتين للشئون الخارجية يورى أوشاكوف، المكالمة بأنها «صريحة وبناءة للغاية»، وهو توصيف دبلوماسى غالبًا ما يشير إلى خلافات جدية، البيان الروسى أكد الاتفاق على تكليف مفاوضين رفيعى المستوى بمحادثات مباشرة بين موسكو وكييف، لكنه لم يذكر ما إذا كان بوتين نفسه سيجلس على الطاولة، بينما أصر الكرملين على أن زيلينسكى ليس شريكًا متكافئًا مع بوتين.
فى الجانب العسكرى، أوضح ترامب أنه لا يرغب فى زيادة المساعدات المباشرة لكييف، لكنه مستعد لبيعها ما تحتاجه من أسلحة، زيلينسكى طالب بشراء المزيد من أنظمة الدفاع الجوى باتريوت، وأعلن أن أوكرانيا ستشترى أسلحة أمريكية بقيمة 90 مليار دولار عبر أوروبا، بينما ستشترى الولايات المتحدة طائرات مسيّرة أوكرانية، لكن الصفقة لا تزال فى إطار النقاش، مراقبون رأوا أن مثل هذه الصفقات الضخمة ستجعل الجيش الأوكرانى أكثر قدرة على الاستمرار فى القتال حتى لو تم التوصل إلى اتفاق سلام. ويليام ب. تايلور، السفير الأمريكى السابق فى كييف، علّق قائلًا: «الأوكرانيون لا يهتمون بالوعود أو الضمانات السياسية، هذا لا يمنحهم الأمن الذى يحتاجونه».
هذه التصريحات عكست التناقضات المتكررة فى مواقف ترامب، قبل أيام فقط، هدّد بوتين بـ «عواقب وخيمة» إذا لم يقبل بوقف سريع لإطلاق النار، لكنه بدّل موقفه بعد قمة ألاسكا، متبنيًا الطرح الروسى الذى يستبعد وقف القتال. وفى عطلة نهاية الأسبوع، وجّه ضغوطه نحو زيلينسكى قائلًا إن بوسعه إنهاء الحرب «على الفور تقريبًا، إذا أراد ذلك»، هذه المراوغة جعلت القادة الأوروبيين فى حالة قلق دائم، غير واثقين من مدى جدية الضمانات التى يلوّح بها ترامب.
رغم ذلك، سارع بعض القادة إلى الإشادة بالدور الأمريكى، الأمين العام للناتو مارك روته، قال خلال اللقاء: «إن إعلانك عن استعدادك للمشاركة فى الضمانات الأمنية يُعد خطوة كبيرة، إنه إنجاز حقيقى»، غير أن الدبلوماسى الأمريكى المخضرم، دانييل فريد، شدد على أن الأوكرانيين لن يقبلوا بكلمات عامة فقط، مقترحًا أن تنشر الدول الأوروبية أصولًا عسكرية داخل أوكرانيا، على أن يدعمها ترامب بأصول دفاعية متمركزة فى الدول المجاورة.
المشهد حمل أيضًا لمسات رمزية، زيلينسكى، الذى تعرض سابقًا للسخرية فى البيت الأبيض بسبب مظهره غير الرسمى، حرص هذه المرة على ارتداء بدلة سوداء أنيقة أثارت إعجاب ترامب الذى قال له: «لا أصدق ذلك، أعجبنى». كما سلّم رسالة من زوجته إلى ميلانيا ترامب، الأمر الذى أضحك الرئيس الأمريكى ودفعه لقول: «أريدها!»، فى مشهد أُراد منه إظهار دفء العلاقات، رغم البرود السياسى.
الأوروبيون الذين اعتادوا خلال الأشهر الماضية على التعامل الفردى مع ترامب، اجتمعوا هذه المرة على طاولة واحدة وحاولوا اعتماد استراتيجية موحدة لإقناعه، لكن وجود بوتين، الذى ظل يتابع المشهد من بعيد عبر اتصالات متكررة مع ترامب، جعل الحوار أكثر تعقيدًا، ومع كل مرة كرر فيها ترامب جملة: «فلاديمير بوتين يريد إنهاء الأمر»، بدا الأوروبيون أكثر جمودًا، وكأنهم لا يحتاجون إلى تذكير بموقف الزعيم الروسى.
الخبراء رأوا أن ترامب خرج من لقاء أنكوريج متبنيًا جزءً كبيرًا من وجهة نظر بوتين، لكن لقاء البيت الأبيض أظهر أيضًا أن الأوروبيين تعلموا كيفية التكيف مع أسلوبه. الصحيفة الأمريكية وصفت الأمر بأنه «دورة مكثفة فى علم ترامب»، حيث بات القادة الغربيون يتعاملون مع رئيس معروف بالمفاجآت والتناقضات وكأنه مادة للتجريب السياسى.