يشهد العالم طفرة غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تؤثر في الاقتصاد، والإعلام، والتعليم، والصحة، وحتى في حياة الأفراد اليومية. وبينما تحمل هذه التقنيات فرصًا كبيرة للتنمية والابتكار، فإنها تثير في المقابل مخاوف حقيقية تتعلق بانتهاك الخصوصية وتهديد حقوق الملكية الفكرية. وهو ما يفرض على الدول العربية التحرك بشكل جماعي لوضع إطار قانوني موحّد يضمن حماية حقوق مواطنيها ويصون مصالحها.
والحقيقة انه لم تعد بيانات الأفراد مجرد معلومات، بل أصبحت الوقود الأساسي لخوارزميات الذكاء الاصطناعي. وتتعاظم المخاطر حين تُستخدم هذه البيانات دون علم أصحابها أو موافقتهم، بما يهدد حقهم في الخصوصية والأمان. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إصدار تشريع عربي موحّد لحماية البيانات الشخصية، يضع قواعد صارمة تشبه القوانين الأوروبية (GDPR)، بحيث يلزم أي جهة تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي بالشفافية والحصول على موافقة صريحة قبل جمع أو تحليل بيانات المواطنين.
ولا شك أن إحدى أكثر القضايا إلحاحًا تتمثل في تحديد هوية المالك الشرعي للمحتوى الذي تنتجه أنظمة الذكاء الاصطناعي، سواء كان نصوصًا أو صورًا أو موسيقى. فهل يحق لهذه الأنظمة أن تُدرَّب على نتاج الكتّاب والفنانين من دون إذنهم؟ وكيف يمكن صون حقوق المبدعين من السرقة الرقمية؟
إن وضع إطار قانوني عربي للملكية الفكرية الرقمية لم يعد ترفًا، بل ضرورة لضمان عدالة التوزيع وحماية حقوق المؤلفين، إلى جانب تنظيم العلاقة بين “الإبداع البشري” و”الإبداع الاصطناعي”.
ولابد أن نعترف بأن مواجهة هذه التحديات لا يمكن أن تتم بجهود متفرقة، بل عبر صياغة قانون عربي موحّد للذكاء الاصطناعي، يصدر عن جامعة الدول العربية أو مجلس وزراء العدل العرب، يحدد المبادئ العامة لحماية الخصوصية والملكية الفكرية، مع السماح لكل دولة بسن لوائح تفصيلية وفق خصوصيتها المحلية. وجود مثل هذا القانون سيمنح الدول العربية قوة تفاوضية أكبر أمام شركات التكنولوجيا العالمية، ويعزز مكانتها في صياغة مستقبل هذه التقنيات.
ولضمان فاعلية التطبيق، يمكن إنشاء هيئة عربية للذكاء الاصطناعي، تتولى مراقبة الالتزام بالتشريعات، وتنسيق التعاون في مجال الأمن السيبراني، وتبادل المعلومات والخبرات، إلى جانب تقديم الدعم القانوني والفني للدول الأعضاء.
وتبقي كلمة..
العالم العربي أمام خيار استراتيجي حاسم: إما أن يظل متلقيًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي بما تحمله من مخاطر، أو أن يبادر بوضع تشريعات موحّدة تضمن حماية خصوصية مواطنيه وصون حقوق مبدعيه. فالمستقبل لا ينتظر، والتشريع العربي المشترك هو السبيل الأمثل لضمان أن تكون هذه الثورة التكنولوجية أداة للنهضة لا وسيلة للهيمنة.