في عالم يدعى العدالة والموضوعية، تتسلّل ازدواجية المعايير كحقيقة خفية تفتك بثقة الأفراد في القيم والمبادئ، إنها الوجه الآخر للظلم، لكنها لا تظهر بوضوح دائمًا، بل تختبئ خلف قناع من الخطاب الأخلاقي، وتستتر تحت عباءة القانون أو الدين أو العرف.
ازدواجية المعايير لا تكتفي بخرق العدالة، بل تزيّفها، فتجعل من الظالم عادلاً، ومن المظلوم متّهمًا، وتُربك الضمير الجمعي للمجتمعات.
معنى ازدواجية المعايير:
ازدواجية المعايير تعني تطبيق قواعد أو مبادئ بشكل غير متساوٍ، تبعًا لهوية الأشخاص أو مواقفهم،
وانتماءاتهم، بمعنى آخر ما يُعتبر خطأً عند فئة يُغض الطرف عنه عند فئة أخرى، وما يُحرَّم على الضعفاء يُباح للأقوياء، وهذا التناقض يخلق شعورًا عميقًا بالظلم ويُقوّض مبدأ المساواة الذي يُفترض أنه أساس العدالة في أي مجتمع.
أسوأ من الظلم، عدالة تُطبق بانتقائية:
الظلم في ثياب العدالة، أخطر ما في ازدواجية المعايير أنها تُخفي الظلم خلف مبررات تبدو عقلانية، فعندما يُحاسب الفقير على خطأ صغير بينما يُعفى الغني من جرم كبير، فإننا لا نرى فقط ظلمًا، بل نرى ظلمًا متنكرًا في صورة العدالة، هذه الآلية الملتوية تمنح الظلم شرعية زائفة، وتخلق نظامًا مشوّهًا من القيم التي يُروَّج لها على أنها عادلة، بينما هي في جوهرها منحازة، "العدالة التي تُشترى بالمال ليست عدالة، بل امتياز"- غاندى.
"ويلٌ لأمة تُبدّل قيمها كما تبدّل أثوابها"- جبران خليل جبران:
إن تفشي ازدواجية المعايير يؤدي إلى تآكل الثقة بالمؤسسات، وزعزعة القيم، وانتشار الإحباط والسخط بين الناس، كما يغذى الشعور بالتمييز، ويؤجّج الصراعات، ويُضعف مفهوم الانتماء والولاء للمجتمع أو الوطن، فحين يشعر الإنسان أنه لا يُعامل بعدل، فإنه لا يشعر بواجب الالتزام بقوانين أو منظومة لا تحميه.
نحو عدالة حقيقية:
إن مواجهة ازدواجية المعايير تبدأ بالاعتراف بها، وفضحها، وتسمية الأشياء بمسمياتها، لا يمكن بناء عدالة حقيقية في ظل معايير مزدوجة، ولا يمكن تحقيق مساواة ما لم تُطبّق القوانين والمبادئ على الجميع دون تفرقة، فالعدالة ليست شعارات، بل سلوكيات وإجراءات تُمارَس على أرض الواقع، تبدأ من الفرد وتنتهي في مؤسسات الدولة، إن نزع القناع عن الظلم، هو الخطوة الأولى نحو عالمٍ أكثر إنصافًا وصدقًا.
ومن هذا المنطلق، احذروا ازدواجية المعايير، فإنها القناع الذي يرتديه الظلم ليبدو عادلاً، حين نكيل بمكيالين نبرر للخطأ حين يصدر ممن نحب، ونُدين الصواب إذا صدر ممن نكره، فإننا نُسهم في ترسيخ الظلم، ولو توهّمنا أننا نناصر الحق.
وإن العدالة لا تعرف الأسماء ولا تُفرق بين الأشخاص، بل تقيس الأمور بميزان واحد، فإذا أردت أن تكون منصفًا، فكن ثابتًا في مبادئك، لا تغيّرها حسب المصلحة أو الهوى، فالحق لا يحتاج إلى محاباة، والعدل لا يعرف وجوهًا متعددة، وختامًا العدالة ليست فقط في المحاكم، بل في كل مكان يُعامل فيه الإنسان بكرامة.