تهريب الوقود في ليبيا – نزيف اقتصادي يهدد الدولة

في أواخر مايو الماضي، أعلنت السلطات الليبية عن ضبط شاحنة محملة بـ40 ألف لتر من وقود الديزل في مدينة سبها، كانت في طريقها للتهريب عبر الحدود الجنوبية. لم تكن هذه العملية استثناءً، بل نموذجًا على نمط متواصل يتسع نطاقه في مختلف أنحاء البلاد، من الزاوية على الساحل الغربي إلى مسالك الصحراء في الجنوب.
في بلد يُعد من الأغنى إفريقيًا وعالميًا من حيث احتياطيات النفط المؤكدة، تتسرب مليارات الدولارات سنويًا عبر تهريب الوقود إلى السوق السوداء، ما يغذي الميليشيات ويزيد هشاشة الدولة في ظل غياب رقابة فعّالة. ومع تعقّد الشبكات وتعدد الأطراف المتورطة، تتصاعد التداعيات السياسية والاقتصادية لهذه الظاهرة يومًا بعد يوم.
جذور الأزمة وأسباب تفاقمها
منذ سقوط النظام السابق عام 2011، دخلت ليبيا مرحلة من التفكك المؤسسي، مما فتح الباب أمام الجماعات المسلحة وشبكات التهريب لاستغلال الثغرات القائمة. كان الوقود، بدعمه الحكومي الكبير وسهولة الحصول عليه، من أبرز الموارد التي تحولت إلى سلعة مربحة خارج القانون.
في السوق الرسمية، يُباع الوقود الليبي بأسعار رمزية، ثم يُعاد تعبئته وتهريبه إلى دول الجوار حيث يُباع بأسعار السوق الدولية، أو حتى إلى أوروبا عبر مسارات بحرية سرية. ما بدأ كتحايل بسيط على الدعم في وضح النهار، أصبح اليوم شبكة منظمة تدر أرباحًا بمليارات الدولارات سنويًا.
في عام 2023، شكّل توقيف عماد بن رجب، مدير إدارة التسويق الدولي بالمؤسسة الوطنية للنفط آنذاك، نقطة تحول بارزة في مسار القطاع. وقد أعربت جهات دولية، بينها الولايات المتحدة، عن قلقها إزاء تنامي عمليات التهريب بعد هذه الخطوة، في إشارة ضمنية إلى الدور المحوري الذي لعبته هذه الكفاءات في الحفاظ على استقرار المنظومة والحد من الفراغ الذي قد تستغله الشبكات غير الشرعية.
واقع الأزمة – اقتصاد مهدَّد واحتياجات غير ملبّاة
تشير التقديرات إلى أن ليبيا تنفق نحو 8.5 مليار دولار سنويًا على واردات الوقود، بينما يُقدَّر أن ما يصل إلى 6 مليارات دولار من هذه الكمية لا يصل إلى المواطن، بل يُهرَّب إلى الخارج عبر قنوات برية وبحرية.
وفي المقابل، يعاني المواطن الليبي من طوابير طويلة أمام محطات الوقود، وانقطاعات متكررة للكهرباء، ونقص حاد في خدمات الطاقة. وبدلًا من أن تكون هذه الثروة وسيلة لتحسين مستوى المعيشة، تحولت إلى أداة تمويل للجماعات المسلحة وجهات تعمل خارج إطار الدولة.
ويفاقم المشكلة ضعف البنية المؤسسية، إذ لم تُفعَّل آليات رقابة فعّالة على حركة الوقود وتوزيعه، ولا على العقود التي تُبرم لتأمينه. وقد أشارت تقارير أممية إلى أن غياب الشفافية وتداخل الأدوار بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين خلق بيئة مثالية لتمدد شبكات التهريب.
ولعل الخلل الأهم يكمن في غياب الكفاءات التقنية المستقلة القادرة على إدارة القطاع بعيدًا عن التجاذبات السياسية والضغوط العسكرية، وهي فئة باتت مهددة بالتهميش أو الإقصاء.
بعد التغيير – إلى أين تتجه المؤسسة الوطنية للنفط؟
مع خروج عدد من الكفاءات الفنية التي أسهمت في ترسيخ الاستقرار داخل المؤسسة الوطنية للنفط، ومن بينهم عماد بن رجب، دخل القطاع مرحلة حساسة اتسمت بتغيرات ملحوظة في بيئة العمل المحيطة بالمؤسسة.
لم يكن التحدي في تعديل السياسات أو إعادة هيكلة بعض العمليات، بل في غياب الدرع الفني والإداري الذي كان يمنح المؤسسة حصانة عملية أمام التدخلات والممارسات الموازية. هذا الغياب فتح المجال أمام أطراف من خارج الإطار الرسمي للتصرف بموارد الدولة النفطية بطرق تتجاوز الإشراف المؤسسي المعتاد، ما ولّد قلقًا متزايدًا على المستويين المحلي والدولي بشأن قدرة الدولة على حماية سيادتها الاقتصادية.
هذا الفراغ لم يكن إداريًا فحسب، بل كانت له تداعيات مباشرة على حياة المواطن. تعثّر وصول الوقود إلى مرافق حيوية، منها المستشفيات، وتكررت الانقطاعات الكهربائية، فيما واصلت البنية التحتية التآكل دون موارد كافية لترميمها أو تطويرها.
إن فقدان القيادة المهنية التي تملك الخبرة والرؤية لا يُقاس فقط بما غاب من قرارات أو إجراءات، بل بما تراجع معه رصيد الثقة العامة، وتقلصت معه قدرة الدولة على التصدي لمحاولات التلاعب بثرواتها الأساسية.
الخاتمة
إن أزمة تهريب الوقود في ليبيا ليست مجرد خلل اقتصادي، بل هي عرض لأزمة أعمق تتعلق بتفكك الإدارة وضعف الإرادة السياسية وتغلغل الفساد في مفاصل الدولة. أزمة تهدد وحدة البلاد وتضعف مكانتها أمام المجتمع الدولي.
ولن تُحل هذه المشكلة بتعيينات شكلية أو حلول ترقيعية، بل من خلال إعادة الاعتبار للكفاءات الوطنية التي تتمتع بالنزاهة والخبرة والقدرة على مقاومة الضغوط. هؤلاء وحدهم قادرون على إعادة تنظيم القطاع وبناء جدار من الثقة حول موارد الدولة.
ومع تزايد اهتمام العالم بمستقبل ليبيا الطاقي، يجب أن تكون الرسالة واضحة: من دون قيادة مؤسسية مستقلة وكفؤة، فإن أغنى الموارد الطبيعية لن تضمن الاستقرار. والوجوه التي تمثل المهنية والانضباط والمعرفة العميقة يجب ألا تُستبعد من مشهد التعافي الوطني، بل تُمنح الأدوات والصلاحيات للمضي به قدمًا.