فى الذكرى الـ25 لرحيل الزعيم
فؤاد سراج الدين.. سيرة وطنية تنتظر التوثيق الفنى

المخرجة رباب حسين: أتمنى تقديم السيرة الإنسانية لزعيم الوفد.. ومشهد قرار الإسماعيلية كان الأصعب فى التصوير
محمد التاجى: لمست فى فؤاد سراج الدين رجل الدولة الحقيقى… وتلقيت منه أعظم إشادة
سيجار الباشا واليد اليسرى.. تفاصيل لم تروَ فى مسلسل «رد قلبى»
الناقد محمود قاسم: الزعيم يملك مسيرة مشرفة فى مجال الصحافة تستحق التوثيق
فى تاريخ مصر السياسى، يظل اسم فؤاد باشا سراج الدين علامة بارزة فى النضال الوطنى والعمل الحزبى. فهو زعيم حزب الوفد، ومن أبرز الشخصيات التى لعبت أدواراً محورية فى مواجهة الاحتلال البريطانى، والدفاع عن استقلال الإرادة الوطنية، وصياغة ملامح الحياة السياسية الحديثة. تولى مناصب وزارية مهمة، منها الداخلية والمالية، وكان له موقف حاسم فى موقعة الإسماعيلية عام 1952، حين رفض الخضوع للإنجليز، فكان هذا اليوم لاحقاً هو عيد الشرطة. ولم يقتصر دوره على السياسة فقط، بل كان له أثر كبير فى الصحافة من خلال دعمه جريدة «الوفد» وتأسيس مدرسة صحفية وطنية.
بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الزعيم الوفدى الكبير فؤاد باشا سراج الدين، تعود الأسئلة بقوة إلى الساحة الثقافية والفنية عن الغياب اللافت لتجسيد هذه الشخصية التاريخية البارزة فى الأعمال الدرامية والسينمائية.
فؤاد باشا ليس مجرد اسم فى ذاكرة السياسة المصرية، بل هو أحد أهم الرموز الوطنية التى تركت بصمات لا تنسى فى تاريخ مصر الحديث.

لقد كانت حياة فؤاد باشا سراج الدين زاخرة بالمواقف الوطنية التى تتطلب من الوعى الفنى والثقافى إعادة استحضارها للأجيال الجديدة، ليس فقط تكريماً له، بل لأن فى سيرته دروساً فى القيادة، والوطنية، والثبات أمام التحديات.
وفى هذا التقرير الخاص، نسلط الضوء على أهمية تجسيد شخصية فؤاد باشا درامياً، من خلال حوار مع الفنان القدير محمد التاجى، الذى جسد الشخصية فى مسلسل «رد قلبى»، ورؤية المخرجة المنفذة للعمل رباب حسين، التى عايشت تفاصيل دقيقة فى صناعة أحد أهم المشاهد الوطنية فى تاريخ الدراما المصرية، بالإضافة إلى رؤية الناقد الفنى محمود قاسم عن أهمية توثيق الشخصية بشكل أكبر.
قال الفنان محمد التاجى فى حديثه إن ذكرى رحيل فؤاد باشا سراج الدين «خالدة، لأننا مهما تحدثنا عنه، فلن نوفيه حقه». وأضاف: «قرأت عنه كثيراً، فهو رجل تاريخى ووطنى من الدرجة الأولى، وكان شرفاً لى أن أجسد شخصيته فى مسلسل (رد قلبى)، وكنت سعيداً وأنا أؤدى الشخصية لأنه قلما تأتينى شخصية حقيقية بهذا العمق والتأثير».
وتابع التاجى قائلاً: «ما لفتنى فى سيرة فؤاد باشا أنه كان أحد صانعى قرارات حاسمة فى تاريخ مصر. ومن أبرز إنجازاته قيادته لوزارة الداخلية أثناء الاحتلال البريطانى، ورفضه المطلق للخضوع للإملاءات الإنجليزية. وكان له الدور الرئيسى فى الدفاع عن كرامة الشرطة المصرية فى موقعة الإسماعيلية، واتخذ القرار الوطنى الشجاع بعدم الانصياع أمام قوات الاحتلال، وهو القرار الذى صار حجر الأساس فى جعل يوم 25 يناير عيداً للشرطة المصرية، وكان لزاماً علىَّ أن أتعرف على مسيرته حتى أتقن شخصيته وأجسدها بهذا الشكل.
وأضاف: «الباشا لم يكن فقط سياسياً، بل كان رجل دولة حقيقياً. شارك فى صياغة دستور 1954، وكان من أبرز من دافعوا عن الحريات السياسية، وعرف بموقفه الشجاع فى مقاطعة الانتخابات الصورية، كما أنه عارض سياسات تأميم الحياة السياسية، وكان له دور بارز فى الحفاظ على هوية حزب الوفد بعد ثورة يوليو. وقد كان له أيضاً دور فى إعادة إحياء الحزب فى السبعينيات رغم القيود السياسية، وشارك فى الحياة العامة حتى آخر أيامه، ما جعله نموذجاً للصبر السياسى والنضال السلمى».
كما لا يمكن إغفال جهوده فى مجال الصحافة، حيث ساند جيلاً كاملاً من الصحفيين الوطنيين من خلال جريدة «الوفد»، التى أصبحت منبراً للمعارضة البناءة والفكر الحر، ما جعله رائداً ليس فقط فى العمل السياسى بل الإعلامى أيضاً.
«التاجى» لعب دور فؤاد باشا فى المسلسل الذى تناول حقبة ما قبل ثورة يوليو، وكان مشهد ظهوره ضمن سياق درامى يصور حادث الإسماعيلية فى 25 يناير 1952، حين اتخذ الباشا قراره الشجاع فى مواجهة الاحتلال البريطانى، وهو ما جعل من هذا اليوم لاحقاً عيداً رسمياً للشرطة المصرية.
وعن الاستعدادات للشخصية، قال «التاجى»: «حاولنا أن نقدم العمل بشكل محترم للغاية، كنا نقيس (الحسنة بالمازورة) كما يقولون، حتى تكون فى مكانها الصحيح ونصل بالشكل لأقرب صورة للباشا. ومع التكرار فى تجسيد الشخصية، أصبح لمكان الحسنة أهميته الخاصة أثناء التصوير، حتى إننى شعرت بأنها حسنة حقيقية، وهذا يعكس كيف أن الشخصية كانت تجبر الفنان على التماهى الكامل معها».
وكشف التاجى عن مفاجأة قائلاً: «بعد عرض المسلسل، وجدت الهاتف يرن، وكان فؤاد باشا سراج الدين نفسه يحدثنى ليعبر عن سعادته بأدائى للدور. وقال لى: (أنت كنت قريباً منى فى الشكل والأداء بشكل كبير)، لكنه عاتبنى بلطف لأننى أمسكت السيجار باليد اليمنى، بينما كان هو يمسكه باليد اليسرى».
وأضاف: «أنعم الله على بثبات انفعالى عندما حادثنى وشكرته لاهتمامه بى، وقال، كنت فخوراً وسعيداً عندما سمعت منه هذا الكلام، خاصة عندما قال لى إننى ممثل ممتاز جسدت دوره بشكل مميز».
وحول كواليس تصوير المشهد المحورى، أوضح التاجى: «أتذكر أن المخرج أحمد توفيق أبدع فى التجهيزات، خاصة مشهد حادث الإسماعيلية، حيث كان الباشا فى منزله يتلقى مكالمة من قوات الشرطة فى 25 يناير، وقد جسدت قمة الانفعال مع الحفاظ على وقار الشخصية. ولم يكن انفعال الباشا كعامة الشعب، بل كان انفعالاً متزناً يليق بشخصية سياسية كبيرة، وهذا ما تطلب منى تحضيراً نفسياً مكثفاً».

وأشار إلى أن التحضيرات تضمنت قراءات موسعة عن الباشا، وتجهيز ملابسه بعناية بالغة، قائلاً: «كنت أسافر يومياً إلى الإسكندرية لأن البدل الخاصة بالشخصية كانت تفصل هناك، وكنا نقوم بالبروفات بشكل يختلف تماماً عن الزمن الحالى».
ووجه التاجى نقداً إلى الدراما الحديثة قائلاً: «للأسف لم تعد تجسد الشخصيات السياسية بما يليق بها، فبعد (رد قلبى) و(أم كلثوم)، لم تنتج أعمال كبيرة عن شخصيات من التاريخ، باستثناء فيلمى (أيام السادات) و(ناصر 56).
وختم قائلاً: «الدراما لها دور مهم فى تجسيد الشخصيات الوطنية التى أعطت الكثير لمصر، مثل فؤاد باشا سراج الدين ومصطفى النحاس، لتكون أعمالاً درامية بمثابة مدارس للأجيال الجديدة يتعلمون منها فنون الحكم وأصول السياسة».
ومن جانبها، تحدثت المخرجة المنفذة لمسلسل «رد قلبى»، رباب حسين، عن الباشا بكلمات مؤثرة، قائلة: «أنا سعيده وفخورة بأننى اتحدث عن الباشا فى ذكرى رحيله، أنا أحبه كثيراً، لأنه رجل وطنى وقف موقفاً لم يجرؤ عليه كثيرون، وكان يبغى الحق دائماً».
وأضافت: حضوره وهيبته مختلفان عن أى شخصية أخرى، وهو من رجال الوفد المحترمين. واستكملت «كان لابد من تناول المرحلة التاريخية التى كان فيها الباشا، من عهد الملك لعلاقته بالنحاس باشا، لكن للأسف لم تكتب بشكل كافٍ أو موضوعى». وأكدت أن الكاتب الراحل مصطفى محرم لو كان حياً لكتب مسلسلاً كاملاً عن فؤاد باشا: «هو شخصية تستحق عملاً مستقلاً، وليس مجرد ظهور ضمن عمل آخر».
وأشارت إلى أن الجانب الإنسانى للباشا كان مليئا بالأسرار التى كشفتها لنا الدكتورة عواطف سراج الدين، فهو سليل عائلة مهمة فى التاريخ المصرى وكان أسلوب تربيته وعلاقته بأسرته يستحقان الوصف والتحليل، فهذه هى الشخصيات التى يجب أن تتعلم منها الأجيال وتعرف قيمتها.
وأشارت إلى أن كواليس تصوير العمل كانت مليئة بالتحديات وهى أن المسلسل 40 حلقة تناول حقبة تاريخية مهمة، وكانت كل شخصية تتم دراستها وتوضيح تفاصيلها حتى نتلاشى أى مشكلات لأن المسلسلات تعتبر وثائق يستمر عرضها سنوات وسنوات، ولذلك كان اهتمامنا بكل شخصية بملابسها وحكايتها.
وأضافت، مشهد تصوير استيقاظ الباشا وقت أحداث الإسماعيلية استغرق وقتاً طويلاً حتى يخرج بهذا الشكل المميز، رغم أن المسلسل تم تصويره منذ سنوات طويلة إلا أننا كنا نهتم بكل تفصيلة فى إظهار الشخصية فى هذا الموقف، حاولنا بقدر الإمكان أن نوضح هذه المرحلة التاريخية لأن أحداث الإسماعيلية كانت مؤثرة للغاية فى هذا التوقيت وهذه المرحلة كانت تاريخية.
اختتمت حسين حديثها بتأكيد أن فؤاد سراج الدين كان نموذجاً لشخصية سياسية وطنية لا تتكرر، وأن غيابه عن ساحة الدراما هو غياب غير مبرر.
وفى هذا السياق، قال الناقد الفنى محمود قاسم إن جزءاً أساسياً من أهمية الفن هو تجسيد الشخصيات السياسية المهمة فى تاريخ مصر، وأضاف أن تقديم مسلسل واحد عن شخصية بحجم فؤاد باشا سراج الدين يعد إفلاساً فنياً. وتابع: «كان من الأولى أن يتم تناول الشخصية من منظور إنسانى يجعل الجمهور يتعرف عليه عن قرب».
وأشار قاسم إلى أن «معظم الأعمال التاريخية التى قدمت ظلمت الشخصيات السياسية بسبب ضعف السيناريوهات، ولذا فإن الحل قد يكون فى إنتاج أعمال وثائقية توثق التاريخ بشكل جاد، لأن هذه الشخصيات ليست فقط أفراداً بل هى جزء من ذاكرة الوطن».

ولفت إلى أن أهمية فؤاد باشا لا تقتصر على كونه سياسياً بارزاً، بل تمتد إلى دوره فى الصحافة أيضاً، حيث أسهم فى خلق مدرسة صحفية متميزة من خلال دعمه لصحفيى جريدة «الوفد»، وهى مدرسة كان لها تأثير كبير فى تشكيل الوعى العام.
وقال الناقد محمود قاسم: «تجسيد الشخصيات الوطنية فى الدراما هو فعل ثقافى من الدرجة الأولى، لأنه لا يوثق فقط لحياة الأفراد، بل ينقل أيضاً روح الزمن الذى عاشوا فيه، ويكشف للجمهور كيف صنعت القرارات السياسية الكبرى وكيف ولدت المواقف الوطنية. الفن، عندما يقترب من هذه الشخصيات، يكون فى خدمة الوعى العام، خاصة لدى الأجيال التى لم تعاصر تلك الفترات.
وأضاف: «نحن نعيش فى زمن سريع النسيان، لذا الدراما والتليفزيون هما الوسيلتان الأقوى لترسيخ الرموز الوطنية فى الوجدان. فؤاد سراج الدين، على سبيل المثال، ليس مجرد زعيم سياسى، بل هو عنوان لمقاومة الاحتلال، ورمز للاستقلال السياسى والفكر الليبرالى المصرى. تجاهل هذه القامات خسارة كبيرة للفن وللتاريخ.

وأكد قاسم أن هناك حالة من الفقر فى الخيال الدرامى عندما يتعلق الأمر بتجسيد الزعماء الحقيقيين، قائلاً: «الدراما المصرية مطالبة اليوم بأن تتجاوز الترفيه، وأن تسهم فى بناء ذاكرة وطنية حية. نحن بحاجة إلى أعمال تبرز الجانب الإنسانى لهؤلاء الرموز، وتعيد تقديمهم كأشخاص من لحم ودم لهم مواقف، وليسوا مجرد صور فى كتب التاريخ».
ويبقى السؤال مفتوحاً أمام صناع الدراما فى مصر: متى سنرى عملاً يليق بفؤاد باشا سراج الدين، زعيماً وطنياً، وإنساناً فريداً، وسيرة يجب أن تروى؟