معاهدة البلاستيك على المحك.. مفاوضات حاسمة في جنيف وسط انقسامات دولية

في ظل تفاقم أزمة التلوث البلاستيكي عالميًا، تتجه أنظار العالم مجددًا نحو جنيف، حيث من المقرر أن تعقد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة جلسة تفاوض حاسمة ضمن أعمال لجنة التفاوض الحكومية الدولية المعنية بوضع معاهدة ملزمة قانونًا للحد من التلوث البلاستيكي، وذلك خلال الفترة من 5 إلى 14 أغسطس الجاري.
بدأت هذه المبادرة في عام 2022 حين أنشأت الأمم المتحدة لجنة متخصصة لمعالجة ما يُوصف بـ"وباء البلاستيك"، عبر صياغة معاهدة دولية تهدف إلى تقنين دورة حياة البلاستيك بالكامل، بدءًا من الإنتاج وحتى التخلص منه. إلا أن خمس جولات تفاوضية سابقة، كان آخرها في مدينة بوسان بكوريا الجنوبية، فشلت في التوصل إلى توافق حول النص النهائي للاتفاق.
تتركز المفاوضات الحالية على أكثر من 370 نقطة خلافية، بحسب مركز القانون البيئي الدولي، وتشمل قضايا معقدة مثل حدود الإنتاج، واستخدام المواد الكيميائية السامة، وتمويل تنفيذ المعاهدة، وتعريف نطاق دورة حياة البلاستيك. وأوضحت كيت بوناسيني، مديرة الاتصالات في المركز، أن ثماني أشهر من الاجتماعات المغلقة سبقت مفاوضات جنيف الحالية، في محاولة لتقريب وجهات النظر.
من أبرز القضايا الخلافية: هل تبدأ دورة حياة البلاستيك من لحظة تصنيعه، أم من مرحلة استخراج المواد الخام مثل الوقود الأحفوري؟ تقول بيثاني كارني ألمروث، أستاذة علم السموم البيئية في جامعة غوتنبرغ، إن المجتمع العلمي يُعرّف الدورة الكاملة بأنها تشمل كافة المراحل، من الاستخراج إلى الإنتاج، وصولًا إلى التخلص النهائي وإعادة التدوير.
وفي حين دعمت أكثر من 100 دولة العام الماضي فكرة فرض قيود على إنتاج البلاستيك، فإن دولًا مثل السعودية وروسيا وأمريكا أعربت عن تحفظها، وهي دول تُعد من أكبر منتجي النفط عالميًا. وتدفع هذه الدول باتجاه تقليص نطاق المعاهدة ليقتصر على إدارة النفايات، مما أثار مخاوف من إضعاف المعاهدة وتحويلها إلى إطار غير فعال.
المعركة داخل قاعة المفاوضات لا تقتصر على الحكومات فقط، إذ تزداد تأثيرات جماعات الضغط الصناعية، خاصة من قطاعي البتروكيماويات والبلاستيك. فقد كشفت تحليلات أن عدد ممثلي هذه الجماعات يفوق عدد العلماء بثلاثة أضعاف، ما يثير تساؤلات حول استقلالية القرار. ووفقًا لكارني ألمروث، فإن هذه الجماعات تسعى إلى عرقلة تضمين قضايا مثل الإنتاج الكيميائي، رغم ارتباطها المباشر بصحة الإنسان والتنوع البيئي.
وقد حذرت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا من تداعيات التعرض المزمن للمواد البلاستيكية، بما في ذلك ارتفاع مخاطر الإصابة بالسرطان، واضطرابات النمو، والعقم، وأمراض الجهاز التنفسي والهضمي. وتؤكد الدراسات أن المواد البلاستيكية تُطلق مكونات سامة طوال دورة حياتها، بدءًا من التصنيع إلى الحرق أو الطمر، ما يزيد من خطورة انتشارها في الهواء والماء والتربة.
وتشير تقديرات جديدة إلى أن كمية البلاستيك النانوي في شمال المحيط الأطلسي قد تصل إلى 27 مليون طن متري، وهو ما يتجاوز بكثير التقديرات السابقة للمواد البلاستيكية الأكبر حجمًا. كما كشفت دراسة حديثة من جامعة تولوز الفرنسية أن الناس قد يستنشقون جسيمات بلاستيكية دقيقة داخل المنازل أكثر بنحو 100 مرة من التقديرات القديمة.
ومع استمرار التراخي في إعادة التدوير، حيث لا تتجاوز نسبة البلاستيك المعاد تدويره عالميًا 6%، تشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن إنتاج البلاستيك العالمي مرشح للزيادة بنسبة 70% بحلول عام 2040، مع ازدياد حجم النفايات والمخلفات غير المُدارة بيئيًا.
لكن الطريق نحو إقرار اتفاق شامل لا يزال مليئًا بالعقبات. فالمفاوضات الحالية تُدار بالإجماع، مما يمنح أي دولة حق تعطيل القرار. وأفاد مركز القانون البيئي الدولي أن دولًا من بينها الصين، إيران، والهند، مارست ضغوطًا لتأخير التقدم مستخدمة أساليب عرقلة ممنهجة. ومع اقتراب الموعد النهائي، يحذر خبراء من احتمال تنازل الدول عن بنود مهمة بسبب ضيق الوقت، ما قد يضعف نص المعاهدة بشكل دائم.
وفي ظل هذه التحديات، بدأت بعض الدول في التفكير في بدائل، مثل العودة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتوسيع نطاق التفويض، أو إنشاء اتفاق خارج الإطار الأممي بين الدول الراغبة في المضي قدمًا، أو حتى تبني بروتوكول ضمن اتفاق بيئي قائم.
وفي مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات في يونيو الماضي، أصدرت 95 دولة بيانًا مشتركًا يُشدد على أهمية إبرام معاهدة شاملة، تشمل قيودًا على المواد الكيميائية المثيرة للقلق، وتحسين تصميم المنتجات، واستخدام أدوات تنفيذ فعالة. واعتبرت هذه الدول أن المعاهدة لن تكون فعالة إذا اقتصرت على تدابير طوعية أو لم تشمل دورة الحياة الكاملة للبلاستيك.
في النهاية، تقف مفاوضات جنيف عند مفترق طرق. فإما أن تتوصل الدول إلى اتفاق طموح يواجه أزمة البلاستيك بجدية، أو أن يفقد المجتمع الدولي فرصة ثمينة للحد من كارثة بيئية وصحية تتفاقم يومًا بعد يوم.