من «أنا حرة» لـ«جائزة الإبداع»
لبنى عبدالعزيز.. نبض الزمن الجميل

تسعون عامًا مرّت، وما زالت لبنى عبدالعزيز، تلك السيدة الرقيقة، تملأ الذاكرة الفنية العربية بنقاء ملامحها، ودفء حضورها، وصدق أدائها الذى عبر الأجيال، يحتفل الوسط الفني المصري والعربي بعيد ميلاد واحدة من أيقونات الزمن الجميل، التى لم تكن فقط نجمةً سينمائية، بل كانت أيضًا رمزًا للوعي والثقافة والاختيار الفني النبيل.
فى لحظة إنسانية دافئة، كرمت الهيئة الوطنية للإعلام الفنانة القديرة لبنى عبدالعزيز بمنحها «جائزة الإبداع» تكريمًا لمسيرتها الطويلة والمضيئة، فى لفتة جاءت لتقول إن الزمن لا يمكنه أن يطفئ النور الحقيقي.
لبنى عبدالعزيز لم تكن نجمة بالمعنى التقليدى، بل كانت حالة فنية وإنسانية خاصة، تميزت بأدوار صنعت ذاكرة أجيال، من فيلم «الوسادة الخالية» أمام عبدالحليم حافظ، إلى «أنا حرة» الذى حمل بصمة تمرد أنثوى مبكر، قدمت العديد من الأعمال التى تجاوزت فيها جمال الصورة إلى عمق الأداء، موهبتها لم تكن منفصلة عن تكوينها الثقافي؛ فهى خريجة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، درست المسرح والتمثيل، وأتقنت اللغات، وامتلكت أدواتها الفنية بثقة ووعى قلّ نظيرهما فى بنات جيلها.
من أبرز أعمالها أيضًا «آه من حواء»، الذى برعت فيه بالكوميديا الاجتماعية، وفى فيلم «الاعتراف»، قدمت واحدة من أعمق تجاربها الدرامية، متوغلة فى مشاعر المرأة الممزقة بين الحب والضمير، كما تألقت فى «وا إسلاماه»، بدور تاريخى يتطلب انضباطًا فنيًا ولغويًا، فأثبتت أنها قادرة على خوض مختلف الأجناس السينمائية.
وتستمر مسيرتها مع أفلام مثل «عروس النيل»، الذى شكّل مزيجًا بصريًا من الأسطورة والفانتازيا، و«إضراب الشحاتين»، حيث تماهت مع الشخصية البسيطة المهمشة في مجتمع مضطرب، وفي كل هذه الأعمال، لم تكن لبنى عبدالعزيز مجرد وجه جميل، بل كانت صوتًا يحمل قيمة، وموهبة تؤمن بأن الفن لا يكون حقيقيًا إلا حين يلامس العقل والقلب معًا.
عاشت لبنى عبدالعزيز تجارب فنية متنوعة، لكنها اختارت دائمًا أن تحافظ على صورتها كما أرادتها: نظيفة، راقية، لا تُباع ولا تُشترى، لم تنجرف وراء موجات السوق ولا أغراها بريق المال، بل كانت تختار أعمالها بمعايير صارمة، تضع فيها قيم الفن فوق كل شىء، وربما لهذا السبب، رغم ابتعادها لفترات عن الساحة، ظلت مكانتها محفوظة فى القلوب، وظلت سيرتها مقرونة بالاحترام والتقدير، من زملائها ومن جمهورها.
اللافت أن لبنى عبدالعزيز، رغم بلوغها عامها التسعين، ما زالت تحتفظ بذات الوهج الإنساني، أحاديثها فى اللقاءات الإعلامية تكشف عن شخصية مثقفة، مرهفة، لم تفسدها الشهرة، ولم تجرحها التجارب، تتحدث دائمًا عن الفن باعتباره رسالة، وعن الحياة باعتبارها رحلة تعلم دائمة، وربما كانت هذه الفلسفة هى ما جعلها تتجاوز السنوات بثبات وهدوء، دون أن تتغير، ودون أن تُستدرج إلى ما لا يشبهها.
وربما لا يعرف كثيرون أن لبنى عبدالعزيز لم تكن يومًا مجرد فنانة تقف أمام الكاميرا لتؤدى دورًا مكتوبًا على الورق، بل كانت دومًا شريكة فى صياغة الشخصية، تنفخ فيها من روحها وفكرها، وتغلفها بوعي ثقافي راقٍ جعل أدوارها تبدو دائمًا أكبر من مجرد تمثيل، فى فيلم «أنا حرة»، لم تكن فقط تؤدى دور فتاة متمردة على تقاليد المجتمع، بل كانت تعبر عن جزء من قناعتها الشخصية، ورغبتها فى أن ترى المرأة وقد حصلت على مكانتها المستحقة، لا بوصفها تابعًا للرجل، بل كإنسانة كاملة الحقوق.
وإذا كانت الشاشة الكبيرة قد حفظت صورتها كنجمة، فإن الواقع احتفظ بها كامرأة مثقفة وشجاعة، خاضت تجارب كثيرة، بعضها كان مليئًا بالتحديات، غادرت مصر فى فترة من حياتها وعاشت فى الولايات المتحدة، وهناك عملت فى الصحافة والإعلام والتعليم، لكنها لم تنقطع يومًا عن الوطن، ولم تغب عن وجدانه، ظلت مصر فى قلبها، وظلت هى فى قلب المصريين، حتى عادت لتكمل فصلًا جديدًا من قصة العطاء، لكن هذه المرة بصوتها عبر أثير الإذاعة، حيث قدمت برنامجًا إذاعيًا ناجحًا بعنوان «لبنى عبدالعزيز تحكى»، عرّفت فيه الأجيال الجديدة بتاريخ الفن والثقافة والمجتمع المصرى.
تألقت الفنانة لبنى عبدالعزيز فى عدد من أبرز الأعمال التى شكّلت علامات بارزة فى تاريخ السينما المصرية، حيث امتزج حضورها الطاغي بأداء ناضج يعكس ثقافتها الواسعة وفهمها العميق لفن التمثيل، فى «غرام الأسياد»، فقدّمت أداءً عاطفيًا راقيًا أمام أحمد مظهر وعمر الشريف، واستطاعت أن تفرض حضورها وسط عملاقين، فى قصة تناولت تعقيدات الحب والفوارق الاجتماعية، وفى «الوسادة الخالية»، أمام عبدالحليم حافظ، قدمت نموذجًا للبطلة الرومانسية ذات العمق الإنساني، حيث امتزجت ملامحها الرقيقة بأداء ملىء بالشجن، ليصبح الفيلم من كلاسيكيات السينما المصرية.
ومع مرور العقود، لم تخفت ابتسامتها، ولم تنكسر روحها، تتحدث عن الماضى بلا مرارة، وتستقبل الحاضر بامتنان، لا تحمل غضبًا تجاه من نسوها حين غابت، بل شكرًا لمن تذكروها فى وقتها الصحيح.
وفى تكريمها الأخير من قبل الهيئة الوطنية للإعلام، لم تُخفِ تأثرها، بل قالت بصدق إن الجائزة جاءت كهدية ثمينة فى هذا العمر، وأكدت أن الفن الصادق لا يموت، وأنها تشعر بالفخر لأنها عاشت عمرها دون أن تتنازل عن مبادئها أو تتورط فى عمل لم تؤمن به.
ونحن نحتفل بعيد ميلادها التسعين، نحتفل أيضًا بفكرة البقاء على القيم، بقدرة الإنسان على أن يصمد أمام تحولات العصر دون أن يتنازل عن ذاته، لبنى عبدالعزيز ليست فقط فنانة قديرة، بل هى سيدة صنعت من الفن تجربة إنسانية عميقة، ومن الحياة رحلة وعي، ومن المرأة رمزًا للكرامة والحرية والذكاء، عيد ميلاد سعيد لسيدة الشاشة، التى رغم بُعدها عن الأضواء، بقيت قريبة من القلب.
