رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

رادار


فى زمن المساومات والانحناءات–وقف زياد وحده ثوريا حتى العظم مدافعا عن المقاومة، رافضا تصفية القضية ساخرا من التسويات ومن الحياد الخائف الذى انتهجه الكثير ذريعة للسكوت.. كتب لفلسطين دون أن يزايد–وغنى لها دون أن يتاجر وجعلها تنبض فى موسيقاه كما تنبض فى دم الشهداء، لم يكن يخجل من انحيازه الواضح للمقهورين وكان يقولها صراحة.. ما يحدث فى فلسطين ليس صراعا بل جريمة متواصلة ضد شعب أعزل.. ولأنه كان صادقا دفع الثمن–ظل زياد الرحبانى لسان الحارات وضمير فلسطين.. وقال ما لم يجرؤ الآخرون على قوله، بصوت ساخر كالحقيقة وعميق كالحزن العربى.
فى زاوية معتمة من هذا الزمن العربى المتشظى، حيث الكلمات تفقد معناها وتصبح الموسيقى ترفًا لا يسمعه الجائعون، ولد زياد الرحبانى كما يولد الضوء فى عتمة قاحلة.. لم يكن فقط ابن السيدة فيروز والعبقرى عاصى، بل كان ابن الهامش ابن الشارع ابن الأحياء المنسية، ابن الحرب والخذلان والجوع والخيبة.. فى نبرته بحة وطن وفى ألحانه دمعة أم تنتظر ولدها منذ سنوات ولم يأت.. لم يكن يلحن ـ بل كان يتألم.. لم يكن يغنى  بل كان يئن بأصوات سرقت من أفواه المقهورين.. جلس إلى البيانو كما الراهب فى محرابه.. والحكيم إلى صمته ـ خجلت الأوتار من ضجيج العالم، وسالت النغمات على يديه كأنها دموع لا تجد حضنا يواسيها.. حين تسمعه تشعر بأن الأوطان كلها تجلس فى حنجرته، تتكلم بوجع اللاجئ والعامل والمرأة المكسورة، والمثقف المتروك فى آخر الصف.. لم يكن غناؤه رفاهية بل ضرورة.. كان يصنع من كل جرح أغنية ومن كل خيبة مسرحية ومن كل وجع مرآة يرى الناس فيها أنفسهم.
زياد لم يكن فنانا عابرا، بل كان قضية.. كان فلسفة كاملة تمشى بين الناس.. حمل فلسطين فى قلبه كما تحمل الأمهات فى الجنائز.. لم يتعامل معها كشعار ـ بل كوطن يسكنه يتنفسه ويحمله على أكتاف موسيقاه.. كان يقولها بلا مواربة: فلسطين ليست قضية.. فلسطين هى الوجدان.. كتب عن غزة كما تكتب القصائد فى الدم، وعن بيروت كما يبكى المفقودون.. وعن بغداد ودمشق وصيدا، كتب من دون إذن من أحد ـ ومن دون خوف من أحد لأنه لم يكن يومًا فى صف أحد سوى الإنسان.. كان يفضح العدوان ولا يكتفى بإدانته ويكشف الخيانة حين يتزين الكلام بلباس السلام.. كان مهمومًا بالفقراء كما لم ينشغل أحد، يرى فى الطفل الحافى قصيدة وفى المرأة التى تجر أكياس الحياة لحنا لا ينتهى، وفى العامل النائم على الرصيف مشروع مسرحية.. لم يكن يتصنع الانحياز.. كان هو الانحياز ذاته.. قالها بصراحته الموجعة: لن أصدق صناع الفن إذا لم يروا الفقرـ الفن الذى لا يشعر بالوجع لن يكون له طعم.. كان حكيما بلا لقب ـ نبيا بلا معجزة شاعرًا بلا ورق.. يسكن شوارع الناس يشم أنينهم.. ويترجمه إلى نغم. لم يكن يبحث عن الجوائز، بل عن المعنى، لم يسعَ لرضى السلطة، بل لاحترام البسطاء.. لم يرفع صوته بحثا عن مجد شخصى، بل ليوقظ النائمين على رصيف اليأس.
سخريته لم تكن مجرد تهكم، بل مقاومة.. ضحكته كانت موجعة لأن خلفها تنهيدة طويلة بحجم وطن ـ لم يعد يشبه نفسه.. كانت سخريته مرآة صادقة نكسر أمامها، ثم ننهض محاولين إعادة ترميم ما تبقى فينا من إنسان.. وفى زمن صار فيه الفن استعراضا والكلمة سلعة والمواقف سلما للشهرة، ظل زياد ثابتًا كأرزة ـ صادقًا كدمعة أم شهيد، نزيها كصلاة طفل، حرا كمن لا يخشى إلا خيانة ذاته.. رحل زيادـ رحل من كان يغنى عنا ويحلم عنا ويصرخ بالنيابة عنا.. رحل من، لم يساوم يومًا، ولم يتلون، ولم يختبئ خلف الأضواء.. رحل وترك لنا صوتا لا ينسى ـ وموقفا لا يشترى–ووجعا لا يشفى منه إلا بموسيقاه نبكيه ـ نعم.. لكننا ننهض من بكائه أقوى نتعلم أن الفن ليس ترفا، بل سلاح وأن الكلمة حين تكون من قلب الوجع تصبح وحيا.. رحم الله زياد الرحبانى.. وغفر لمن يشبهه من الصادقين الذين رحلوا ولم يخذلوا.. وأنزل على قلب أمه السيدة فيروز سكينة تليق بعظمتها وصبرا يسند قلبها كما ساندت بصوتها قلوب الملايين ـ زياد.. ليس فنانا.. زياد هو الموقف ـ هو الصوت ـ هو الدمع–وآخر ما تبقى من ضمير الفن فى هذا الزمن العربى الضائع.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
[email protected]