هَذَا رَأْيِي
بين عشية وضحاها غابت ضحكة أسرة صغيرة مكونة من أب وأم وستة أطفال فى عمر الزهور وغاب معها ذكريات وحكايات ولعب ولهو ريم وعمر ومحمد وأحمد ورحمة وبقيت اختهم الكبرى فرحة على سرير الموت تنتظر مصير مجهول وأمل فى نجاتها لتحكى لنا قصص وحكايات وذكريات عاشتها مع إخوتها.. موت غامض هجم على الأسرة دون بقية أسر قريتهم الصغيرة «دلجا» فى أقصى جنوب محافظة المنيا.. موت ترك وراءه علامات استفهام وتعجب لم تجد إجابة شافيه ولا حقيقة مؤكدة تكشف سر رحيل متواصل لخمسة أطفال أعمارهم بين الخامسة والاثنتى عشرة عامًا فى فاجعة هى الأولى من نوعها خاصة بعد غياب حقيقة ما أصاب الأسرة رغم مرور عشرين يومًا على الفاجعة، فلا تقرير طبي ولا تفسير علمي ولا بحث جنائى قدم رأيًا جازمًا عن ماذا حدث؟وكيف حدث؟ وما الذى حدث للأسرة المنكوبة؟..
لم تكن هناك صيحات إنذار، ولا علامات خطر. كل ما جرى أن الأطفال بدأوا يشكون من صداع، حمى، وقيء مفاجئ. أجسادهم الصغيرة انتفضت بألم، كأن شيئًا مسمومًا قد دخل دون استئذان. نُقلوا إلى مستشفى دير مواس، ولكن الأجل كان أسرع من الأطباء، وأقوى من الدواء.
فى ساعات معدودة، سقط خمسة منهم، الواحد تلو الآخر. عيون القرية لم تنم. صوت البكاء اخترق جدران الصمت. كيف يموت خمسة أطفال دفعة واحدة؟! أهو مرض غامض؟ أم تسمم خفي؟ أم جريمة مدبرة؟ أو إهمال وعدم حطية وحذر؟
الناس تريد أن تفهم وتعرف الحقيقة..الرد الرسمى جاء سريعًا «لا يوجد مرض معدٍ، لا توجد بكتيريا، لا فيروس، ولا التهاب سحايا».. مياه الشرب صالحة، والطعام غير فاسد..الناس فى دلجا وفى غيرها مما عرفوا بالفاجعة ينتظرون معرفة الحقيقة، يريدون أن يعرفوا لماذا فُقدوا هؤلاء الأطفال الأبرياء وما سبب فقدهم؟!
طفلٌ فى الصف الأول، وآخر لم يلتحق بالمدرسة بعد، وآخرون كانوا يلعبون قبل ساعات… كلهم غابوا، وما زالت أسرّتهم دافئة، وألعابهم مبعثرة فى جنبات وممرات بيتهم الصغير.
تحدث البعض عن «العيش الشمسي»، ذاك الخبز الريفى الذى كانت الأمهات يخبزنه كل صباح، ويُضفن إليه الحب والحنان. فهل كان هذا الخبز يحمل فى قلبه سُمًّا؟ هل تسرّب إليه شيء ما لم تره الأمهات؟ هل كان قاتلهم صامتًا على موائدهم؟
الأسئلة كثيرة، والقلق أكبر، والثقة أصبحت مثل الزجاج… إن انكسرت، فصعب أن تعود كما كانت.
الناس تريد الحقيقة لا التهدئة..الناس لا يريدون التطمينات فقط، بل يريدون حقائق مؤكدة… يريدون أن يعرفوا: هل أطفالهم فى أمان؟ هل مياههم صالحة؟ هل طعامهم سليم؟ وهل هناك من سيحاسب إن كان هناك إهمال أو تقصير أو فعل متعمد؟ كتمان الألم، لا يشفى القلوب، لأن الصمت أمام موت الأطفال، مصيبة أخرى وخيبة أمل وجريمة فى حق الإنسانية وأمام رب العباد.. القرية اليوم حزينة، ليس فقط على ما فقدت، بل مما تخشى أن تفقده لاحقًا. الأمهات لا تنمن ليلًا، الآباء يقفون أمام بيوتهم بصمت يشبه العجز. والطفلة السادسة، ترقد على سرير المستشفى، بين أمل وألم.
الحياة فى دلجا تغيّرت، والضحك صار خافتًا، والقلق أصبح مرافقًا لأمهات وأباء أهل القرية..
يا من فى يدكم الأمر، لا تتركوهم وحدهم فى وجعهم..أنقذوا الطفلة السادسة وأباهم الذى يرقد على سرير المرض فى المستشفى الجامعى بأسيوط، وطمئنوا شعبًا كله صار يتساءل: «هل أولادنا فى أمان؟». أعلنوا الحقيقة، مهما كانت صادمة، فالصراحة دواء، والكتمان داء وخيانة.
المنيا تبكي… لا لأنها تعرف الموت، بل لأنها ذاقت مرارته وتجرعت آلامه دفعة واحدة فى فاجعة لم تشهدها من قبل..
فهل من يسمع؟. وهل من يُجيب؟