خارج السطر
كتاب التاريخ حكاء مُدهش. يُنبئنا بتقلبات وتحولات وتغيرات غرائبية للبشر. يتعلق الناس بشخص ما يرونه مُخلصا ومُنقذا لهم مما يعانون من مشكلات أزلية، مُحققا لآمالهم وطموحاتهم فى معيشة أفضل، ثُم سُرعان ما يتغير الأمر بعد توليه المسئولية ليتبدل المزاج العام سريعا.
فى الفترة من 1801 إلى 1805 خلع المصريون خمسة ولاة عثمانيين، واليا خلف آخر لأنهم لا يطيقون الانفراد بالرأى، ولا يريدون الاستبداد والتعسف وفرض الضرائب الباهظة على الناس، واحتشدوا وتضافروا وساندوا قائدا ألبانيا رأوا فيه رجل العدل والصلاح والتواضع وهو محمد على. كان الرجل باسمًا ناعمًا وطيبا ومُبجلا للمشايخ والعلماء، ومبديا محبة لا حدود لها للمصريين. وهكذا فُتحت له الأبواب، وامتد الثناء، وطال الدعاء للحاكم العادل الذى تصور الناس أنه سيحررهم من ربقة الظلم والاستعباد، ولم تمر سنوات قليلة حتى أطاح الرجل بالزعامة الشعبية المتمثلة فى عمر مكرم، ثُم قام بتصفية المماليك والأمراء المناوئين لينفرد تماما بحكم مصر، ويستولى على كافة أراضيها، ويفرض الضرائب والسخرة والقهر على الناس جميعا لتطول معاناتهم لنحو نصف قرن معه ثُم قرن آخر مع أبنائه وأحفاده.
مشهد آخر مشابه حدث فى الأزمة العاصفة التى واجهتها مصر بسبب الديون الخارجية فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، نتيجة لجوء الخديو إسماعيل للاستدانة بغير حساب من الخارج. وقتها تنامى المد الوطنى، واتسعت حلقات السياسة، وانعقد الجدل والحوار بشأن الأخطار التى تُحيط بالوطن، وكان من الغريب أن ترى النُخبة السياسية وعلى رأسها المصلح العظيم جمال الدين الأفغانى فى توفيق، نجل الخديو وولى العهد مُخلصا عظيما. ووصل الأمر إلى تخطيط البعض للقيام بحركة انقلابية لخلع إسماعيل واختيار توفيق بديلا عنه. والمُدهش أن مُراد الناس تحقق فيما بعد دون انقلاب، لكن الخديو توفيق لم يكن هو المُخلص كما رأت النخبة، وإنما كان جسرا لعبور الاحتلال البريطانى لمصر، والذى طال لأكثر من سبعين عاما.
أما فى أواخر عهد الرئيس السادات، فقد تمددت مُحيطات الرفض الشعبى لسياساته، وأنكر الناس عليه بعض الأقوال والأفعال، ومع اندلاع موجات الغلاء واتساع الفوارق بين الطبقات فى مصر، نسى الناس سريعًا النصر المُتحقق، وتاقوا إلى تغيير كبير. وربما صار نائبه حسنى مبارك وقتها هو البديل الأطيب والأهدأ والأكثر حكمة، وكما حكى كثير من أصحاب الشهادات التاريخية، فإن كثيرًا من السياسيين والكتاب كانوا يلجأون إليه لحل مشكلات ما أو توصيل رسائل إلى القيادة، وهكذا فقد استبشروا خيرا بتوليه بسلاسة عقب اغتيال السادات فى أكتوبر 1981.
لكن دوام الحال محال، والمزاج السياسى للشعوب هو الأكثر تغيرا. ومهما كانت الانجازات المُحققة لزعيم ما، ومهما كانت درجة عطائه، فإن الشعوب لا عواطف لديها، تمل سريعا وتتململ كثيرا وتتذبذب توجهاتها مرارا، فتراجع اختياراتها السابقة، وتُغير تصوراتها.
لذا، فإن تداول السلطة بآليات دستورية، وبقناعات ذاتية، وبوعى تام بمصالح الأوطان هو الطريق الأمثل لصناعة الإنجازات. فالسياسات تتغير مع كل سلطة، وفرق العمل تتجدد مع كل نظام، وفرص التجريب تكثر، وخطط التنمية تتعدد.
وهكذا تتنافس كل سلطة لتحقيق إنجازات حقيقية تنفع الناس، لتمكث هذه الإنجازات على الأرض. أما الزبد فيذهب جفاء.
والله أعلم