«مسجد أبو مندور برشيد»....تحفة معمارية ومزار روحاني وتاريخي عمره 1043عام يجمع بين أصالة الأثر وجمال الموقع

على ربوة تطل على نهر النيل الخالد، تقف شامخةً منطقة تل أبو مندور الواقعة جنوب مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، والتي تحولت من مجموعة تلال رملية إلى مزار سياحي وروحاني يجتذب الزوار من كل مكان، لما تحمله من عبق التاريخ وجمال الطبيعة وروحانية المكان، ويعلو هذه الربوة مسجد العارف بالله "سيدي محمد أبو مندور"، الذي يعود تاريخه إلى ما يزيد عن ألف عام.
حيث يتربع مسجد أبو مندور الأثري على ربوة ساحرة جنوب مدينة رشيد، كواحد من أقدم وأجمل المساجد الإسلامية المطلة على نهر النيل، موقع فريد جمع بين عبق التاريخ وروحانية المكان، جعله مقصدًا للزائرين والسياح من شتى البقاع، يستظلون بجماله المعماري ويتباركون بسيرة صاحبه العارف بالله الشيخ محمد أبو مندور، المشهور بـ"أبي النضر".
من هو "أبو مندور"
هو العارف بالله محمد أبو مندور، والذي اشتهر بلقب "أبو النضر" لقوة بصره وحدة نظره، وقد قَدِم إلى مدينة رشيد عام 991 ميلادية، حيث عاش بها نحو أحد عشر عامًا، تولّى خلالها تعليم الناس أمور دينهم، وأمَّهم في الصلاة، حتى وافته المنية عام 1002 ميلادية، ويُعَدّ واحدًا من أعلام التصوف والزهد في مصر في ذلك الوقت.
نسب ومكانة الشيخ محمد أبو مندور
ينتسب الشيخ الجليل محمد أبو مندور إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه من زوجته الحنفية التي تزوجها بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها – بنت رسول الله ﷺ. جاء الشيخ أبو مندور إلى رشيد من العراق سنة 384هـ / 991م، وعاش بها ينشر العلم ويؤم الناس في صلواتهم، حتى تُوفي ودفن بها عام 395هـ / 1002م، ليصبح قبره داخل المسجد مزارًا روحيا ومكانًا للسكينة والذكر.
موقع مميز يلامس النيل
يقع المسجد في نقطة التقاء رائعة بين نهر النيل وقمم التلال الرملية، تحيط به الأشجار والتين، مما يضفي عليه طابعًا روحانيًا ومشهدًا بصريًا بديعًا.
يذكر الأهالي أن الموقع كان متصلًا قديمًا بشارع يمتد من المسجد حتى شارع العرابي، وكانت توجد به بوابة جنوبية شبيهة ببوابة أبو الريش شمال المدينة، ما يؤكد أن المسجد كان جزءا من تخطيط حضري عريق.
عبق العمارة الإسلامية
يمثل مسجد أبو مندور تحفة معمارية إسلامية بامتياز،حيث يضم: سقف خشبي محمول على عقود مدببة ترتكز على أعمدة رخامية بيضاء ذات تيجان مزخرفة تأخذ أشكالًا ناقوسية وبصلية وكورنثية.
والمسجد يوجد به ثلاثة أبواب رئيسية في الجوانب الشمالية والشرقية والغربية، أهمها الباب الشمالي المعقود بعقد ثلاثي مدائني تعلوه زخارف خشبية دقيقة، ويعلوه لوح رخامي منقوش عليه بيتان من الشعر يشيران إلى تجديد المسجد في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1312هـ / 1894م: "
وعند المدخل الشرقي للمسجد، تلفت الانتباه فتحة مستطيلة تعلوها لوحة حجرية، وأسفل المدخل مكسلتان جانبيتان، وهو عنصر معماري كان شائعًا في منازل ومساجد رشيد قديمًا، حيث كان المصلون يجلسون عليها للاستراحة.
مسجد يحمل التاريخ على جدرانه
شُيّد المسجد في حياة العارف بالله "أبو مندور"، أي قبل أكثر من ألف عام، ثم جُدد المسجد بالكامل في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1312 هـ / 1897 م، ليظهر بصورته الحالية ذات الطابع المملوكي العثماني، وفي عام 1987، سُجّل المسجد ضمن الآثار الإسلامية بهيئة الآثار المصرية، ليؤكد مكانته التاريخية والمعمارية.
ملامح معمارية متميزة
يمتاز المسجد بطراز معماري إسلامي فريد، حيث يضم ثلاثة أبواب رئيسية من الجهات الشمالية والشرقية والغربية، تعلوها عتبات خشبية قديمة ولوحات حفرية تحتوي على نقوش وأرقام تاريخية.
مكونات المسجد الداخلية
المحراب: يتوسط جدار القبلة، ويُزين بعقد مدبب محمول على عمودين من الرخام ذو تيجان مقرنصة، تحيطه نقوش بسيطة تبرز جلال المكان.
المنبر: تحفة من الخشب المعقلي، مزخرف بنقوش هندسية ونجمية دقيقة، ويعلوه أشكال مقرنصات ذات دلايات تضفي عليه هيبة.
الضريح قلب المسجد
يحتوي المسجد على ضريح سيدي أبو النضر، الذي يقع داخل حجرة مربعة تزينها مقصورة خشبية مزخرفة تتوسطها شريط كتابي منقوش، وتحته خطوط زخرفية بالخطين الكوفي والديواني، في مشهد يُجسّد عبق التاريخ وسكينة المكان
و الضريح يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من جدار القبلة، وبابه من خشب فاخر محفور بأطباق نجمية وأشكال هندسية دقيقة، ومطعم بالعاج والصدف، وتعلوه قبة مستندة إلى مقرنصات، يتخللها ثمانية مناور صغيرة للإنارة والتهوية.
الصهريج: يُعد الصهريج الملحق بالمسجد هو الوحيد المتبقي من صهاريج رشيد القديمة، ولا يزال يُستخدم حتى الآن، بعدما تم هدم باقي الصهاريج عقب قرارات سابقة.
المئذنة.. الطابع العثماني الفريد
تُعد مئذنة مسجد أبو مندور إحدى أجمل مآذن رشيد، وهي الوحيدة التي صُمّمت على الطراز العثماني، إذ تبدأ بقاعدة مربعة، تعلوها بدن مثمن الأضلاع، يعلوه صف من المقرنصات المعمارية الرشيقة التي تحمل شرفة المؤذن، والتي كانت تُستخدم قبل دخول الكهرباء لتأدية الأذان يدويًا.
تقف مئذنة المسجد شامخة من الجهة الجنوبية الغربية، تبدأ من قاعدة مربعة، يعلوها طابق مثمن مزين بمقرنصات بارزة، تعلوها دورة المؤذن، وتنتهي بقمة مدببة، ويُعد هذا النمط عثماني الطابع نادرًا ما تبقى في مساجد رشيد، ما يزيد من القيمة الفنية والتاريخية للمسجد.
قيمة روحية وسياحية
لا يقتصر دور المسجد على العبادة فحسب، بل يُعد مزارًا صوفيًا وروحيًا للنساء والرجال الذين يفدون إليه للتبرك بالشيخ، وطلب الرزق والشفاء، خاصة من البئر الذي يُعتقد أن ماءه المبارك يُشفي الأمراض الجلدية ويزيد النسل.
تل أبو مندور.. من السياحة الدينية إلى المقصد الترفيهي
لم تعد منطقة تل أبو مندور مجرد موقع أثري، بل أصبحت مزارًا سياحيًا متكاملاً، وذلك عقب إدراج المنطقة ضمن خطة وزارة السياحة لتنمية رشيد، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن توصيات مؤتمر الشباب بالإسكندرية في يوليو 2017.
وقد شهدت المنطقة تطويرًا كبيرًا شمل تمهيد الطرق المؤدية إليها، وتوفير سبل الراحة للزائرين، ما جعلها قبلة للرحلات المدرسية والجامعية، إلى جانب الوفود الأجنبية، والأهالي من محافظتي البحيرة وكفر الشيخ، للاستمتاع بالمكان الذي يجمع بين الجمال الطبيعي والقيمة الدينية والتاريخية.
جاذبية فريدة وموقع استراتيجي
يطل تل أبو مندور على نهر النيل مباشرة، ما يمنح الزائرين مشاهد بانورامية خلابة، ويتيح لهم الاستمتاع بـركوب اللنشات النيلية وممارسة الصيد، في تجربة تجمع بين الراحة النفسية والروحية.
كما يحتضن التل العديد من النباتات الطبيعية والأشجار المعمّرة، ما يجعله رئة خضراء لمدينة رشيد وفسحةً ساحرة لعشاق الطبيعة والتاريخ معًا.
يظل مسجد أبو مندور رمزًا خالدًا للروحانيات والتراث، وواحدًا من أجمل كنوز محافظة البحيرة، حيث تتعانق الروحانية مع عبق التاريخ في بقعة فريدة كتب لها الخلود على ربوة مطلة على النيل، في مدينة رشيد التي لا تزال تخبئ بين جدرانها الكثير من الكنوز التي تنتظر الاكتشاف.
مسجد أبو مندور هو أكثر من مجرد مَعلم ديني.. إنه سجل حي من الروح والتاريخ والجمال، يروي حكايات الإيمان والصبر والبناء، ويستحق أن يكون على خريطة السياحة الدينية والأثرية في مصر.













