ونس الدكة
رائحة اليود وزحمة المارة بحى الجمرك، لون البيوت ذات النوافذ الخشبية العالية القديمة يشى بعمر الحجارة وتفاصيل المكان وحكايات من سكنوه، هواء البحر المنعش ومواسم النوة، مطر الشتاء يغسل القلوب ويعيد ترتيب المشاعر فى الصدور، حلقة السمك الصاخبة على بعد خطوات من قصر رأس التين تذكر العابرين عن آخر ملوك مصر الذى خرج من بوابته إلى البحر والمجهول، سحر الكورنيش وأشرعة مراكب الصيد الصغيرة تتمايل على صفحته محدثة أمواجاً صغيرة متلاحقة تداعب الناظرين المتحلقين حول باعة الفرسكة والذرة المشوية والجيلاتى بلغة الاسكندرانية.
فيلم «يحيا الحب»، «الدكتور»، «السمان والخريف»، «فى الصيف لازم نحب»، «وسقطت فى بحر العسل»، «طريق الأمل»، «حكاية حب»، «الزوجة الـ13»، وغيرها الكثير يوثق ويحكى فى ثوانٍ تمر كالبرق على الشاشة الفضية.. هنا كان فندق البوريفاج، عمارات شارع فؤاد، طريق الكورنيش القديم، فيلا سابا باشا.
أما إذا وقفت لتطفئ شغف القراءة داخلك أمام أحد الأكشاك الصغيرة لبيع الكتب القديمة والمستعملة فى محطة الرمل، فستخبرك المدينة الحكاءة أن تحت قدميك عتبة أول دار عرض سينمائى فى قارة إفريقيا باسم «عزيز دوريس» عام 1869، وفى مكان آخر من المدينة إذا حاولت تتبعه وغاوى كان يوجد أول استوديو سينمائى مجهز بأحدث آلات التصوير والعرض والمونتاج لمؤسسه المخرج السكندرى الهوى والمولد «توجو مزراحى» اليهودى الذى رفض السفر لإسرائيل وهاجر إلى بلد أجداده إيطاليا وتوفى فيها.
يولدون ويرحلون، كحركات المد والجزر وتبقى «سكندريتى» لا تشيخ ولا تكبر، يخرج الموسيقار العبقرى «سيد درويش» من منطقة كوم الدكة، ويعيش الشاعر اليونانى الجميل «كفافيس» فى وسط المدينة نحو سبعين عاماً.
يرسم محمود سعيد رائعته «بنات بحرى» ويراقص «سيف وأدهم وانلى» بريشتهما فتيات الباليه، أما الفنان التشكيلى «عصمت داوستاشى» فحكاية أخرى سأرويها يوماً ما.
روايات اسكندرية لا تنتهى.. فهناك فى كل عصر من يذكر اللاحق بها.. كتب عن الفيلسوفة السكندرية «هيباتيا» وبردة الإمام البوصيرى فى مدح سيد الأنام «محمد عليه الصلاة والسلام»، وعن تلاميذ عطاء الله السكندرى.
وفى عصرنا جاءت الروايات على يد الكاتب الكبير ابن الاسكندرية «إبراهيم عبدالمجيد» وملحمته «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، «طيور العنبر»، «الإسكندرية فى غيمة»، أما الروائى الراحل درويش إسكندرية وعاشقها «محمد جبريل» فيؤرخ فى «رباعية بحرى»، وهى سلسلة من أربع روايات فيقدم رؤية متكاملة عن المدينة وسكانها، موثقة جوانبها الاجتماعية والثقافية والتاريخية.
يلتحق سمير صبرى ويوسف شاهين وعمر الشريف والملك حسين وملكة هولندا كتلاميذ فى مدرسة «فكتوريا كولدج» فيتخرجوا ليملؤا الدنيا فنا وإبداعاً وسلطة وسياسة.
هكذا تبدو فى مخيلتى «سكندريتى».. سنوات من بهجة الاكتشاف وتأمل البحر وما يحمله فى جوفه من بقايا أعمدة قصر كليوباترا وسفينة نابليون ورفات شهداء موقعة «ذات الصوارى» أول معركة بحرية للمسلمين ضد الدولة البيزنطية.
إحساس طفولى بالفرحة لا ينتهى بمجرد قراءة لوحات الطريق الزرقاء تشى بما بقى من كيلومترات على الوصول إلى مدينة الإسكندرية.
هل توقفت سكندريتى عن دهشة دارويشها ومريديها يوما ما؟ الإجابة ببساطة بالنفى، فمنذ ثلاثة وعشرين عاما فاجأت المدينة مجاوريها بإحياء مكتبتها القديمة، التى كانت أقدم مكتبة حكومية عامة فى العالم القديم، تحت اسم مكتبة الإسكندرية الجديدة، وتضم مجموعة كبيرة من الكتب تقدر بنحو مليون والنصف كتاب، مختارة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وكذلك مجموعة مختارة من كتب بلغات أوروبية أخرى مثل الألمانية والإيطالية والإسبانية ولغات أخرى نادرة مثل الكريبولية ولغة هايتى وزولو، وتتضمن المجموعة الحالية مصادر من المانحين من جميع أنحاء العالم فى شتى الموضوعات.
أما جدارية مكتبة الإسكندرية الشهيرة فتعود فكرتها للفنانة النرويجية «جورن سانز»، تم بناؤها من الجرانيت الرمادى اللون المنتقى من أفضل المحاجر فى صعيد مصر وبالتحديد من أسوان. وتضم الجدارية العديد من الرموز والنقوش والحروف الأبجدية من جميع أبجديات العالم على مر العصور التاريخية المختلفة والتى تقدر بنحو 4,200 رمز من 120 لغة، تعبر عن رسالة المكتبة، باعتبار أن اللغة هى أساس الثقافة ولغة التحاور بين الثقافات. وتبلغ مساحة الجدارية 6,000 م٢ من الجرانيت، تزن نحو 2,400 طن.
أخيراً أدعو القارئ للسفر إلى مدينة الثغر لاكتشاف سكندريته، فربما تكون بداية الوصل متابعته لفعاليات الدورة العشرين لمعرض مكتبة الإسكندرية الدولى للكتاب، والمقام حالياً فى تلك المدينة الساهرة حتى مطلع الفجر، فحينما يتحقق الود ويطلع على أحول مبدعيها ومفكريها وما تحتضنه من ثقافات واتجاهات فكرية وورش عمل ودراسات سيكتشف أن لا أحد ينام فى الإسكندرية.