البحيرة تشهد انطلاق موسم زراعة الأرز وسط فرحة الفلاحين

فى بداية فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، يتزين ريف محافظة البحيرة من جديد بفرشٍ أخضرٍ بديع، حيث بدأت آلاف الأفدنة في استقبال المياه لزراعة "الذهب الأبيض" كما يسميه الفلاحون، إنه الأرز، المحصول الذي لا يغيب عن موائد المصريين، والذي يرتبط بزراعته عرق وجهد وفرحة تمتد من الأرض إلى السماء.

و مع حلول شهري يونيو ويوليو من كل عام، تعود الحياة إلى الحقول في محافظة البحيرة، التي تُعد من كبرى المحافظات الزراعية في مصر، حيث يبدأ الفلاحون في زراعة الأرز، ذلك المحصول الاستراتيجي الذي يعرف بين أوساطهم بـ"الذهب الأبيض"، نظرا لقيمته الاقتصادية والغذائية والاجتماعية.

و في مشهد يفيض بالجمال والروح، عادت الحقول في البحيرة لتنطق بالخضرة من جديد، معلنة انطلاق موسم زراعة الأرز، ذلك الفصل السنوي الذي لا يكتب في التقويم، بل يكتب في قلوب الفلاحين، ويسقى بعرقهم، ويروى بالدعاء.

حيث شهدت قرى ومراكز محافظة البحيرة انطلاق موسم زراعة الأرز لهذا العام وسط أجواء من البهجة والتفاؤل بين الفلاحين، حيث تزينت الحقول بمشهد الشتلات الخضراء الممتدة على مد البصر، في لوحة زراعية تعكس عراقة هذه الأرض وخبرة أبنائها في زراعة واحد من أهم المحاصيل الاستراتيجية في مصر.

 

و مع أولى خيوط الصباح، كانت الأرض قد شربت من ماء الترع، وهدأت بعد الحرث والتسوية، واستعدت لاستقبال أغلى ضيوفها وهم الفلاحين، وعلى امتداد القرى والمراكز بمحافظة البحيرة، بدأ المشهد الذي ينتظره الجميع كل عام، مشهد يكتب بالحب، ويروى بالعرق، وتغرس فيه الحياة شتلة.. شتلة.

مع بزوغ الشمس، تشهد قرى البحيرة مشهدًا أشبه بلوحة فنية؛ صفوف من الرجال والنساء والأطفال، يخطون بأقدامهم في الطين، يغرسون شتلات الأرز بيد، ويرفعون بالدعاء اليد الأخرى، يملأهم الأمل بمحصول وفير وسنة طيبة.

 

في مراكز إدكو، كفر الدوار، المحمودية، الرحمانية، دمنهور وغيرها من المراكز ، تحولت الحقول إلى خلية عمل نابضة، فيها الكبار والشباب، الصغار والأمهات، الكل خرج إلى الأرض، يحملون الشتلات في "الزمائل"، ويغنون للموسم، ويخطون أول سطور موسم الأرز لعام ٢٠٢٥.

 

 

من الحرث إلى الغرس

المشهد بدأ قبل أيام، حين جهز الفلاحون أرضهم بالحرث العميق، لتقليب التربة وتهويتها، ثم سُويت الأرض بالماء والعزاقة الحديدية، حتى أصبحت كمرآة تعكس وجه السماء، تبشر بموسم خصب.

بعد الري الأول، بدأت عملية "التشتيل"، حيث تنقل شتلات الأرز الصغيرة من مشاتلها إلى الحقول الكبيرة، وهناك، تحت أشعة الشمس، وفي الماء الذي يصل الركبة، نزل الفلاحون كأنهم ينزلون لمقام مقدس.

يبدأ موسم زراعة الأرز عادة في شهر مايو، ويستمر حتى منتصف أكتوبر في مناطق زراعة الأرز في مصر، وخاصة في محافظات الدلتا والوجه البحري،و يتم زراعة الأرز عن طريق غمر الحقول بالماء بعد إنبات الشتلات. 

مراحل زراعة الأرز:

إعداد الأرض: يتم تسوية الأرض وتجفيفها، ثم يتم ترويتها.

زراعة البذور: يتم نقع البذور في الماء قبل زراعتها.

الغمر: يتم غمر الحقول بالماء بعد إنبات الشتلات.

حصاد المحصول: يتم حصاد الأرز من منتصف أغسطس حتى نهاية أكتوبر. 

ويُعد موسم زراعة الأرز بمحافظة البحيرة من أهم المواسم الزراعية التي ينتظرها المزارعون كل عام، لما لها من أهمية اقتصادية واجتماعية كبيرة، حيث يعتمد عليها آلاف الأسر كمصدر رزق أساسي، إلى جانب دورها في تنشيط حركة العمل بالقرى والمراكز المرتبطة بالزراعة والصناعات القائمة عليها.

وأعرب عدد من الفلاحين عن سعادتهم ببدء موسم الزراعة، مؤكدين أن الأرز يمثل جزءًا أصيلًا من تراث البحيرة الزراعي، حيث توارثوا خبراته وتقنياته عبر الأجيال، ليحافظوا على إنتاجيته وجودته رغم تحديات المناخ ومتغيرات السوق.

ويؤكد الفلاحون أن الأرز ليس مجرد محصول، بل هو موسم حياة كاملة تدب فيها الحركة في كل بيت وكل شارع ريفي، وتُحيي معها الصناعات المرتبطة به، وتفتح أبواب الرزق لمئات الأسر التي تعتاش على هذا الذهب الأبيض.

 

يقول الحاج جمعه عبد العاطي ، مزارع من مركز المحمودية :"الشتلة لما تتحط بإيدك في الطين، كأنك بتحط قلبك ، هي اللي بتكبر، بس إحنا اللي بننضج معاها سنة ورا سنة."

الشباب في الصفوف الأولى

الملفت هذا العام، هو الحضور القوي للشباب في الغيط، ليس فقط كعمالة مساعدة، بل كجيل جديد قرر أن يمسك بالشتلة ويحمل المسؤولية.

وفي الخلفية، كانت أمهات القرى يُعددن الطعام في ظل الأشجار، ويجلبن المشروبات الباردة، وتعلو ضحكات الأطفال الذين يلهون في الماء بينما يتعلمون أولى خطوات الزرع.

مجهود جماعي

عمليات الزراعة تبدأ من الفجر ولا تنتهي إلا مع الغروب، الفلاحون يقسمون الأرض إلى "شرك"، كل مجموعة تغرس سطرا وراء الآخر، بخطى دقيقة وإيقاع ثابت، كأنهم جوقة موسيقية.

يقول محمد عماد ، ١٨ سنة، طالب بالثانوي الصناعى من مركز المحمودية، قال:"بنشتغل مع أبويا من صغرنا، بس السنة دي حاسس إني بقيت راجل بحق، بزرع بإيدي، وبفهم الأرض وبتكلم معاها."

صلاح منصور، مزارع من قرية الخليج، يقول وهو يغرس الشتلات بسرعة:"بنزرع عشان نعيش.. وعشان اللي جاي يعرف إننا ناس بتعرف تشتغل، بتعرف تعيش من خير ربنا، مش مستني حد."

وأضاف منصور قائلا : كل حقل دلوقتي فيه الماء، والضوء، والعرق، والدعاء، وفيه أمل بلد كاملة بتتعلق بـ "شتلة صغيرة" بتنمو في الطين، وبتحمل في قلبها رزق الملايين، الأرض اتزينت، والزرع بدأ يشق طريقه، والعيون مترقبة للحظة الحصاد بعد شهور من التعب، ولما السنابل تتمايل في الريح، يعرف الفلاح إن تعبه كان يستاهل.

الشتلة مش بس رزق بل كرامة
بالنسبة لفلاح البحيرة، الشتلة مش بس أكل، الشتلة هي الشرف، يزرعها عشان أولاده ما يمدوش إيدهم، ويحصدها وهو رافع رأسه، ومهما غلت الأسعار أو قلت الأرباح، عمره ما يسيب أرضه، لأنها جزء من روحه.

الدولة تدعم.. والفلاح يحمي
ومع كل موسم، تتكاتف جهود الدولة عبر مديرية الزراعة والجمعيات الزراعية، التي تتابع توفير مياه الري وتقديم إرشادات مكافحة الآفات والري الحديث، لكن يبقى الفلاح البحراوي هو الحارس الأمين للزرع، يراقب نمو الشتلات كأنها أولاده، يفرح حين يشتد عودها، ويحزن إذا مرضت أو جفّت.

وفي هذا العام، يشهد موسم زراعة الأرز فى البحيرة استعدادات مبكرة وتنسيقا مكثفا بين الأجهزة التنفيذية، ومديرية الزراعة، وجمعيات الإصلاح الزراعي، وذلك في إطار توجيهات القيادة السياسية بتعزيز جهود الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية، وتحقيق الأمن الغذائي، مع الالتزام الكامل بضوابط ترشيد استهلاك المياه.

 

وتظل زراعة الأرز في البحيرة موسمًا استثنائيا يجمع بين تعب الأرض وعرق الفلاحين، وبين الفرح والاحتفال في الحقول، وذلك في مشهد سنوي يعكس قيمة هذا المحصول الذي يحمل معه الخير لكل بيت في دلتا النيل، فزراعة الأرز في البحيرة مش بس موسم، دي حكاية وطن، وملحمة ناس بتحب الأرض، وبتعرف إنها لما تعطي، الأرض بترد أضعاف، وفي قلب كل شتلة، قلب فلاح بيقول: "أنا هنا.. بزرع أملي، وبلدي، وعيش ولادي.