مهن فى مهب الريح

من الأقصر للغربية.. صناعات يدوية تودّع الحياة
فى قلب مصر تتوارى حكايات لمهن عريقة كانت ذات يوم شريان الحياة فى المحافظات، ففى الأقصر «تحف تطوف العالم» كانت تحمل بين طياتها روح الفن والتراث، تصارع اليوم للبقاء، تستجدى نظرة اهتمام قبل أن تختفى إلى الأبد. وفى المنيا، حيث كانت صناعة الأقفاص تزهر، باتت الآن على وشك الانقراض، شاهدة على تحول جذرى فى احتياجات الناس وأنماط حياتهم.
ولا يقتصر الأمر على المهن اليدوية البسيطة، ففى سلامون القماش، تدمر عوامل متعددة مثل الروتين والضرائب والمنافسة الصينية «صناعة التريكو»، التى كانت يومًا ما مصدر فخر وعيش لكثيرين. وفى الإسكندرية، يئن الإسكافى، تلك الحرفة التراثية العتيقة، تحت وطأة التطور التكنولوجى الذى طغى عليها، تاركًا إياها ذكرى جميلة لزمن كانت فيه الأحذية تصنع بحب وتصلح بحرفية.
إنها ليست مجرد مهن تندثر، بل هى قصص وحكايات، وتاريخ وثقافة تفقد مع كل حرفى يغادر ورشته، ومع كل أداة تلقى جانبًا. إنها دعوة للتأمل فى قيمة التراث، وضرورة الحفاظ على هذه المهن التى تمثل جزءًا أصيلًا من هويتنا المصرية. فهل يمكننا أن نعيد لهذه الحرف بريقها؟، أم ستظل همسات من الماضى، تذروها رياح النسيان؟.
الإسكافى..
يصارع الزمن فى سوهاج
فى عالم تكتسحه التكنولوجيا, تظل بعض الحرف اليدوية الأصيلة تقاوم الاندثار, وإن بصعوبة بالغة. فبينما اختفت مهن عريقة كلحام وابور الجاز» من ذاكرة القرى والمدن, ما زالت حرفة «الإسكافى» تصارع من أجل البقاء فى سوهاج, محافظة على زبائنها الأوفياء, خاصة من كبار السن الذين يثقون فى براعة اليد الحاذقة.
جمال كمال عطية, 55 عامًا, إسكافى من مدينة طهطا شمال سوهاج, يمثل خير مثال على هذا الصمود. ورث جمال هذه المهنة أبا عن جد, متشرّبا أصولها منذ نعومة أظفاره. يتذكر كيف بدأ فى الحادية عشرة من عمره, فى الصف السادس الابتدائى, يساعد والده فى ورشته الصغيرة مقابل »قرش» يوميا. لقد تعلم جمال فن تصليح وخياطة الأحذية يدويا بدقة واهتمام, تماما كطالب الطب الذى يتعلم خياطة الجروح. حرص على اكتساب كل مهارات المهنة من والده, حتى أصبح شابا قادرا على إدارة عمله الخاص, فاستأجر محلا فى مدينة طهطا ليمارس فيه شغفه.
لكن «دوام الحال من المحال», كما يقول جمال. فمع ظهور ماكينات خياطة وتصليح الأحذية الحديثة التى اجتاحت الأسواق, اعتقد أن مهنته ستنتهى. ورغم انجذاب الكثيرين للآلات, ظل زبائن الإسكافى اليدوى يبحثون عنه, مؤمنين بأن الخياطة اليدوية تمنح الحذاء جودة ومتانة تدوم طويلا, خاصة الأحذية ذات القيمة العالية.
يقر «جمال» بأن المهنة بدأت فى الانقراض, وتقل رزقها تدريجيا. وللتكيف مع هذا التحدى, اضطر إلى شراء ماكينة حديثة ليواكب متطلبات السوق ويغطى نفقات أسرته المتزايدة. ورغم ذلك, يؤكد جمال أن الخياطة اليدوية لا تزال هى الأفضل, خاصة تلك الخياطة »السحرية» التى لا تظهر فى نعل الحذاء. كما أنه ما زال يقوم بصنع الأحذية يدويا لمن يرغب, مستخدما أجود أنواع الجلود والخيوط, مرددا أن »العمل اليدوى فى كل شىء لا زال هو الأفضل من الآلات».
يتذكر جمال نصيحة والده الذهبية: «الزبون دائما على حق», وهى القاعدة التى يطبقها فى تعامله مع زبائنه ليحافظ عليهم. كل ما يتمناه اليوم هو أن يربى نجليه ويلتحقا بكليات جيدة ويحصلا على فرص عمل مناسبة, خاصة بعد أن عجز عن تعليم أحدهما مهنة الإسكافى لعدم وجود عائد مادى مجز منها. إنها قصة صمود وشغف, تسلط الضوء على أهمية الحفاظ على تراثنا الحرفى قبل أن تبتلعه عجلة التطور السريع.
«التريكو» فى سلامون.. قلعة تنهار
قرية سلامون القماش, التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية, كانت تُعرف بأنها قلعة صناعية فى مجال الغزل والنسيج, ومركزًا حيويًا لصناعة التريكو. لسنوات عديدة, نجحت منتجاتها المحلية فى منافسة المستورد, لكن هذه الشهرة آخذة فى التلاشى, حيث تواجه الصناعة المحلية اليوم تحديات جمة تهدد بانهيارها الكامل وتحويل الصناع إلى عاطلين عن العمل.
يعزو أصحاب هذه المهة تراجع هذه الصناعة الحيوية إلى مثلث قاتل يضم الروتين الحكومى, الضرائب الباهظة, والمنافسة الشرسة من المنتجات الصينية المستوردة. هذه العوامل مجتمعة حولت القرية من مركز صناعى مزدهر إلى بيئة يعانى فيها الصناع من شبح البطالة.
يقول حامد رفاعى, صاحب مصنع تريكو, إن سيطرة المنتجات الصينية على الأسواق تشكل تحديًا كبيرًا, فالمنتجات المستوردة تُباع بأسعار زهيدة لا تمكن المنتج المحلى من المنافسة. يضاف إلى ذلك ارتفاع الضرائب الباهظة وصعوبة التسويق, مع غياب شبه كامل للتسهيلات الحكومية.
سلامون القماش بدأت تحولها الصناعى عام 1973, حيث انطلق أول مصنع صغير من أحد المنازل, لتتبعها مئات المصانع الأخرى التى حولت معظم بيوت القرية إلى ورش ومصانع لإنتاج أجود الملابس الشتوية والصيفية. لكن اليوم, يرى ياسر السيد, صاحب مصنع, أن الاستمرار فى هذه الصناعة أصبح «يحتاج إلى معجزة حقيقية» بسبب غياب الدعم الحكومى وعدم استقرار أسعار المواد الخام التى يتحكم بها التجار دون رقابة.
ويشير عادل المنسى إلى أن الأسباب تتعدى ذلك لتشمل ارتفاع تكلفة المنتج المحلى مقارنة بالصينى, وفواتير الكهرباء المرتفعة التى تقطع باستمرار, ما يجبر أصحاب المصانع على شراء مولدات كهربائية باهظة الثمن, لا تستطيع بدورها تشغيل إلا ماكينات الحياكة العادية كالالتريكو الحديثة التى تعمل بالكمبيوتر.
ويضيف محمد السيد, أحد أصحاب المصانع, أن »ملاحقة الضرائب» وجهات أخرى تسببت فى «خراب بيوت عدد كبير من صغار الصناع». فمطالبات الحكومة فاقت قدرتهم الإنتاجية وأرباحهم الضئيلة. يروى كيف تحاسبه الضرائب على إنتاج ثلاث ماكينات, رغم أنه لا يمتلك سوى اثنتين, وعندما حاول إقناعهم, واجه تعنتًا وتهديدًا, مما اضطره لدفع ضريبة زائدة على ماكينة وهمية تفاديًا للمزيد من المشاكل.
يطالب أصحاب هذه الحرفة وعلى رأسهم فوزى على, الحكومة بوضع ضوابط لإنقاذ هذه الصناعة الحيوية. وتدخل عاجل لتقديم الدعم المالى والفنى, ووضع خطط لتطوير الصناعة وتأهيل العمال لمواكبة التطورات التكنولوجية. فهل تستجيب الدولة لنداءات الاستغاثة هذه, أم تترك «قلعة التريكو» لتتحول إلى مجرد ذكرى فى تاريخ سلامون القماش?
تحف الأقصر تصارع من أجل البقاء
تمثل صناعة الألباستر تلك المهنة التراثية التى ورّثها الأجداد للأحفاد فى الأقصر; ميراثًا أصيلًا لدى ممتهنيها بالبر الغربى, كما أنها تُمثل رابطًا حيًا بين الماضى والحاضر; فكل قطعة ألباستر تُصنع فى بلاد طيبة, تحمل فى طياتها عبق الحضارة ومهارة المصرى الأصيل.
ورغم أن الألباستر يعد أحد عوامل الجذب السياحى, إذ يقبل زائرى المدينة من الجنسيات المختلفة على زيارة الورش العاملة بالبر الغربى للنيل; لشراء منتجات يدوية أصيلة, إلا أن العاملين بهذه الحرفة يخشون اندثارها فى ظل التحديات التى تقف حجر عثرة أمام استمرارها, ويرون أن استمرار الحرفة التراثية التاريخية هو مسؤولية ثقافية واقتصادية تستحق الدعم.
أشرف العمدة, صاحب أحد مصانع الألباستر بالقرنة; أكد للوفد أن عدة تحديات تهدد الحرفة بالاندثار; مشيرًا إلى أن قلة الأيدى العاملة فى صناعة الألباستر تمثل العائق الأكبر, موضحًا أن الأجيال الحالية لا تهتم بالتراث كالأجيال السابقة وربما هذا يعود لروتين الحياة السريع, حتى سيطرت السوشيال ميديا على اهتمامات الجيل الحالى لافتًا إلى أن جيله هو آخر جيل تعلّم «الصنعة» وبالتالى بحسب العمدة لايوجد جيل يمثل امتداد لجيله فى شغفه بالحفاظ على الحرفة.
ولفت صاحب مصنع الألباستر إلى محاولتهم فى ترغيب الشباب فى تعلم الحرفة من خلال رفع قيمة العائد المادى نظير العمل فى الألباستر, لاسيما أنها حرفة تتطلب الصبر.
وأضاف العمدة, أن ثانى التحديات التى تواجههم هى صعوبة الوصول إلى الأحجار الخام من المحاجر; والتى تكلفهم الكثير نتيجة جلبها من محافظات أخرى كالمنيا وأسيوط وسوهاج.
كما أشار إلى أنه لاتوجد نقابة خاصة بالعاملين فى الألباستر تتولى بحث متطلباتهم فى سبيل الحفاظ على استمرار هذه الحرفة التراثية المهمة والتى يفضلها السائح القادم إلى الأقصر, مشيرًا إلى أنه تم تخصيص جمعية للفنانين بالقرنة لكنها لم تُفعل.
فيما أشار محمد محمود, أحد العاملين بالمجال أن الألباستر الأخضر اختفى نظرا لاستخدام المادة الخام فى صناعات أخرى وحكره على هذه الصناعات, وتبقى الأبيض والبنى.
وأوضح أن صناعة الألباستر تقوم على: المنتجين, وبائع المنتج, والمعاناة الحقيقية تقف على المنتجين الذين يتضاءل عددهم مشيرًا إلى ضعف المردود المادى على العاملين فى هذه الحرفة.
وطالب أشرف العمدة, بتأسيس جمعية أو مدرسة; لتعليم صناعة الألباستر المصرية الخالصة للحفاظ عليها من الاندثار فى ظل تراجع الكثيرين عن تعلمها; بالاضافة للضرورة الملحة لدعم وتعاون وزارة الثقافة باعتبار أن الأقصر تتسم بالسياحة الثقافية وتعتبر منتجات الألباستر منتجات ثقافية, مع هيئة مع الجهات المعنية من هيئة تنشيط السياحة; لبحث التسهيلات أمام العاملين بالألباستر والتشجيع للعمل بها لاسيما أن القرنة تضم أكثر من 120 مصنعًا للألباستر وتحظى منحوتات الألباستر بإقبال السائح على شرائها.
«اللى عنده جلد».. مهن تقاوم الحياة فى الفيوم
تشهد محافظة الفيوم تراجعًا كبيرًا فى عدد من الصناعات والحِرَف اليدوية التقليدية, حتى إن بعضها أصبح مجرد ذكرى فى صفحات التاريخ, من أبرز هذه الصناعات, صناعة الحصير المصنوع من نبات «السمّار», التى كانت تزدهر فى قرية العجميين.
يقول كارم شعبان, أحد أبناء القرية: «كانت هذه الصناعة مزدهرة فى القرية لعقود طويلة, وكانت الأسُر تعتمد عليها كمصدر دخل رئيسى, وكان الحصير يُصنع يدويًا باستخدام خيوط من ألياف الكتان التى نشتريها من القاهرة». ومع مرور الوقت, تراجعت زراعة نبات السمّار, وارتفعت تكاليفه, كما ظهرت بدائل كالحصير البلاستيكى والسجاد والموكيت, مما ساهم فى تراجع الصناعة حتى اختفائها.
ومن بين الصناعات التى أوشكت على الزوال أيضًا, دباغة الجلود, فقد كان حى المدابغ بمدينة الفيوم يعج بالحياة والنشاط, وكانت رائحة الدباغة تملأ الأجواء. وكانت مهنة الدباغة مصدر رزق رئيسى لأبناء الحى منذ منتصف القرن الماضى, وتمد السوق المحلى بالعديد من المنتجات الجلدية كالشنط, والأحذية, والجواكت. إلا أن تطور الحياة, وسفر الكثير من الشباب للخارج, وارتفاع تكلفة الإنتاج, إلى جانب توقف تصدير الجلود, كلها عوامل أدّت إلى تراجع الصناعة, ووصل الحال إلى أن جلود الماعز والخراف, التى كانت تُباع بعشرات الجنيهات, وجلود الأبقار والجاموس التى كانت تباع بمئات الجنيهات, باتت تُلقى اليوم فى أكوام القمامة لعدم وجود من يشتريها, واختفى معها المنادى الشهير الذى كان يجوب الشوارع بصوته الجهورى: «اللى عنده جلد». أما صناعة الطوب اللبن أو «النيّ», المعروفة شعبيًا ب», فهى الأخرى تواجه خطر الاندثار, هذه الصناعة كانت مزدهرة فى قرية اللاهون, حيث كان يُستخدم الطوب اللبن فى بناء المنازل الريفية والأفران البلدية, ولكن مع انتشار الطوب الأحمر واستخدام الخرسانة المسلحة, إلى جانب الاعتماد على أفران الغاز الحديثة المصنوعة من الحديد والصاج, لم يعد هناك حاجة لهذا النوع من الطوب, فانحسرت الصناعة تدريجيًا.
فى النهاية, تتلاشى هذه الصناعات الواحدة تلو الأخرى, حاملة معها جزءًا من تراث الفيوم وهويتها الثقافية, فى ظل غياب الدعم أو محاولات إحياء هذه المهن التقليدية التى شكّلت وجدان أجيال مضت.
الأيمة.. فن الحفر على الخشب يندثر بالغربية
فى محافظة الغربية, تواجه مهنة »الأيمة» أو الحفر على الأخشاب, التى تُعد جزءًا أساسيًا من صناعة الأثاث, خطر الاندثار الوشيك. الآلاف من الحرفيين الذين أبدعوا فى هذه الصناعة يعيشون الآن فى حالة من اليأس والفراغ, بعد أن اجتاحت المعدات الصينية الحديثة الأسواق المصرية, مقدمة بديلًا آليًا للحرف اليدوية. هذا التحول أدى إلى ضياع آلاف فرص العمل, وتحول العديد من هؤلاء الحرفيين إلى سائقى »توك توك», أو مهاجرين بحثًا عن لقمة العيش فى الخارج, بينما اكتفى آخرون بالعمل كعمال يومية.
للوقوف على الأسباب الحقيقية وراء هذا الاندثار, التقى مراسل »الوفد» بصناع الأثاث فى قرية كتامة وبعض القرى الأخرى بالغربية, حيث يقول عبدالحميد أبو المجد, أحد حرفيى الأيمة, إن هذه المهنة كانت ذات قيمة كبيرة فى صناعة الأثاث, فهى «الوجه الجميل» لغرف النوم والصالونات الفاخرة باهظة الثمن. كان الحرفيون فى هذه المهنة يتفاوتون فى مهارتهم, وكان أمهرهم من يقوم بالحفر على خشب السويد, وهم قلة نادرة. كانت ورشهم محجوزة من قبل تجار الموبيليا لعدة شهور مقدمًا لضمان تسليم الأعمال للزبائن فى موعدها. كانت هذه المهنة تدر أموالًا كبيرة على «الصنايعية» (الحرفيين), وتوفر لهم »رغد العيش» حتى قبل عشر سنوات مضت.
ولكن, مع ظهور الآلات الحديثة للحفر على الأخشاب, والتى تمتاز بالسرعة رغم افتقارها لدقة العمل اليدوى, بدأ العديد من الحرفيين فى ترك مهنتهم بسبب قلة العمل. كما اتجه العديد من الزبائن إلى المعدات الصينية الأرخص.
يضيف محمد الضبيعى, إيمجى بقرية كتامة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية, أنهم كانوا يعيشون حياة آمنة ومستقرة, ويعملون ليلًا ونهارًا دون توقف. لكن »التغييرات الاقتصادية» دفعت التجار إلى اللجوء للآلات الصينية الجديدة لتحل محل الحرفيين, بأسعار أقل وجودة أدنى بكثير من الحفر اليدوى ذى القيمة الكبيرة. اضطر الزبون للتعامل مع الآلات الجديدة رغم رداءتها لكونها أقل تكلفة, مما دفع آلاف الحرفيين إلى ترك مهنة الأيمة والبحث عن مصدر رزق جديد بعد إغلاق ورشهم. لم يتبقَ من ممارسى هذه المهنة سوى أعداد قليلة, يعملون فى الغالب للميسورين من أصحاب الذوق الرفيع الذين يقدرون الجمال الأصيل لقطعة الأثاث, بغض النظر عن ثمنها, وخاصة من يعملون فى الصالونات باهظة الثمن. بعض الحرفيين المتبقين يعملون فى «العمل التجارى» وهو الحفر على الفايبر لواجهات غرف النوم والأطفال والبوفيهات وغيرها, وهو عمل يتطلب جهدًا كبيرًا لكن بمقابل مادى ضعيف, مما يضطرهم للعمل ليلًا ونهارًا لتوفير حياة كريمة لأسرهم.
يناشد الحرفيون اللواء أشرف الجندى, محافظ الغربية, بفتح ملف حرفيى الأيمة فى كتامة وغيرها من القرى, ومساندتهم لإنعاش هذه الصناعة فى الغربية. ويطالبون بالاستفادة من خبراتهم النادرة ومساعدتهم على العودة إلى ورشهم وأعمالهم قبل أن تندثر هذه الحرفة الفريدة تمامًا. فهل تستجيب الجهات المعنية لنداء هؤلاء الحرفيين وتحافظ على إرث الأجداد?
صناعة الأقفاص.. تنقرض بالمنيا
يعتبر «القفص» الخشبى, المصنوع من جريد النخيل, من أشهر الصناعات التى كانت تشتهر بها محافظة المنيا «عروس الصعيد», ولكنها بدأت فى الاختفاء تدريجيًا, حتى أوشكت على الاندثار, ولم يعد أحد يعمل بها إلا أشخاص قليلون يعدون على الأصابع, وتعد صناعة الأقفاص والكراسى والترابيزات, من جريد النخل من المهن اليدوية القديمة فى محافظة المنيا, ورغم أنها أوشكت على الانقراض نظرًا لصناعة البلاستيكات, التى تشهد تطورًا كبيرًا وبأشكال جمالية متنوعة, إلا أنه مازال العاملون بها محتفظين بمهنة الأجداد. القفاص يبدأ عمله اليومى بانحناءة خفيفة للظهر, ينخرط بسعادة وفخر فى صناعة منتجات الجريد داخل ورشة تزدهر بالحياة, تحاكى أعرق الحرف اليدوية بتنويعات فنية مختلفة مصحوبة بالفن والإبداع, يفوح من جنباتها كفاح سنوات فى مهنة ما زالت تكابد عناء البقاء, تمثل أدواتها وخاماتها ذاكرة خالدة تتحدى لغة النسيان, «القفاصين» مهنة موروثة بدأت بأقفاص الخضراوات والفاكهة, ثم تطورت لأسرة وكراسٍ وطاولات.
خطر الانقراض كان السبب فى تطوير «القفاصين» لصناعات الجريد والتجديد منها, بما يواكب الحداثة ويلبى احتياجات السوق وأذواق الزبائن, فعكفوا على تطويرها خشية قطع ارزاقهم, ومن الجريد صنع تحفًا وأنتيكات فنية, تخصص فيها وأصبح شغله الشاغل تطويع الجريد وتشكيله لإنتاج مختلف المنتجات
وتشتهر قرية «المحرص», إحدى قرى مركز ومدينة ملوى جنوب محافظة المنيا, حيث اشتهر عم حمدى عبدالسميع بصناعة الأقفاص الخشبية من جريد النخيل, رغم وجود صناعة البلاستيكات, وهى قرية أهلها بسطاء, ويبلغ قاطنيها حوالى 45 ألف نسمة, حيث لا يخلو منزل من منازل القرية منها إلا ويعمل فيه كبير أو صغير فى هذه الحرفة, فما أن تطأ قدماك مدخل القرية إلا وتقع عيناك على أحواش كبيرة وواسعة على جانبيك تمتلئ بالأقفاص التى تم تصنيعها, وأكوام من جريد النخل, وبعض »العشش» التى يجلس بداخلها من 3 إلى 5 أشخاص يقومون بتصنيع الأقفاص, فيما تجد الأطفال يقومون بتلوين الأقفاص, أو ربطها بالأسلاك لعرضها وبيعها لتجار الفاكهة.
وتحتاج صناعة الأقفاص إلى وقت وصبر, علمًا بأن الأدوات المستخدمة فى الصناعة تقليدية جدًا, حيث لا نستخدم أى من الآلات أو ماكينات باهظة الثمن, ولا نحتاج مصنع أو ورشة صغيرة, فكل ما نعتمد عليه هو السكين, ويستخدم فى تنظيف الجريد من سعف النخيل, وكذلك الخرامة, والمسندة والبلطة للتكسير والتقشير, ونستطيع العمل فى أى مكان حتى لو كان فى حقل أو داخل غرفة صغيرة بالمنزل.
ورغم أنها من المهن الشاقة, حيث تتطلب الوقوف لفترات طويلة لتهذيب الجريد, ثم الجلوس لساعات قد تصل إلى عشر ساعات, حتى ينتهى من صنع «قفص» واحد, ليبيعه آخر اليوم قبل أن يذهب إلى بيته محملًا بالخبز لإطعام أطفاله الصغار.
ويقوم العاملون على صناعة أقفاص جريد النخل بصناعة صناديق للخضراوات, وكراسى لبعض المقاهى والكافيهات, وترابيزات وكراسى لبعض الإستراحات, وأقفاص لتربية الدواجن والطيور, وبعض عشش الحقول الزراعية, ويستخدمها بكثرة حتى الآن أصحاب محلات وأسواق بيع الخضراوات والفاكهة, وأسعارها زهيدة برغم عناء تصنيعها.


