مراجعات
يبدو أن التاريخ لا يكتفي بالتكرار.. بل يُعيد نفسه، بصورٍ أكثر وحشية ودموية، وكأن الأمم لم تتعلم من مآسيها السابقة، بل وَرَثَتْها وَطَوَّرتها بأدوات أكثر فَتْكًا، وتجردًا من الإنسانية!
الآن، تشابهت النَّكَبَات علينا، بعودة المجاعات القديمة كحصارٍ ممنهج، والاحتلالات بمسميات حديثة، وتكرار المجازر بوحشية غير مسبوقة، وكأن الجلادين تعلّموا من الماضي ألَّا يتوبوا، بل لتحسين أدوات القمع والتبرير، بينما الضحايا يُساقون إلى حتفهم بالاسم نفسه: «المدنيون الأبرياء»!
لذلك، ثمة قواسم مشتركة بين الماضي والحاضر، بين ما كان وما هو كائن، بين «شِعْبُ أبي طالب» و«شِعْبُ غزة»، في كونهما رمزين للحصار الظالم والصمود البطولي في وجه القمع والاضطهاد، حيث حُوصِر النبي محمد وأهله ومَن ناصره من بني هاشم ثلاث سنوات، مُنعوا فيها من الطعام وكل شيء، لكسر إرادتهم وعزلهم عن المجتمع!
وبالمثل، يعيش أهل غزة تحت حصار خانق على مدار عقود، خصوصًا منذ «طوفان الأقصى» في أكتوبر 2023، محرومين من أساسيات الحياة، في مواجهة عدوان متكرر يستهدف كسر صمودهم.
وكما صمد النبي محمد وأصحابه في «الشِعْب» بإيمانهم وصبرهم، يصمد أهل غزة اليوم بإرادتهم وثباتهم، متحدِّين آلة القمع «الصهيونية»، ومتمسكين بحقّهم في الحياة والحرية.
ما يحدث في قطاعٍ محاصَرٍ ـ يعيش فيه ما تبقى من مليوني إنسان ـ أن معاناتهم لم تعد مجرد حالة طارئة، تستهدف الإنسان في أكثر لحظاته ضعفًا، وهو يبحث عن لقمة تسد جوعه، أو جرعة ماء تبقيه حيًّا، بل تجاوزت ما لم نسمع عنه في أساطير الأولين.
طوابير ممتدة من المدنيين العُزَّل الأبرياء، معظمهم أطفال ونساء وكبار سن، ينتظرون أي مساعدات... لا يحملون سلاحًا، بل يرفعون أكفّهم نحو شاحنة خبز أو شوال دقيق. وفجأة، تُفتح النيران، أو تُلقى القذائف، أو تتسارع الآليات العسكرية نحو الحشود، فيتحول مشهد الانتظار إلى مجزرة، وتتحول الأيادي الممتدة إلى جثث مضرجة بالدماء، وملقاة على الأرض!
ما لم تنقله الكاميرات، هو ما لا يمكن تخيله: أمٌّ تبحث عن طفلها المفقود، وشاب يحمل جسد والده الملفوف بكيس طحين، وناجون يجمعون الخبز الملوث بالدم ليأكلوه لاحقًا.. لأنه لا بديل!
للأسف، في ظل قرارات دولية متواطئة، وصمتٍ عربي وإسلامي وعالمي مخزٍ.. ماتت ضمائر العالم، الذي فقد أخلاقه وإنسانيته، ولم يُدرك بعد، أن الشعوب الحَيَّة والحرة، لا تُهزَم بالجوع، ولا تُرَكَّع بالقصف.
أخيرًا.. الجوع في غزة، أكبر وأقسى جريمة في التاريخ، وعقاب جماعي لشعبٍ لا ذنب له سوى أنه يريد أن يعيش في حرية وكرامة، ولذلك فإن هذا القطاع المحاصَر يجب أن يُعامَل أهله كبشر، لا كأهداف، لأنهم يبحثون عن حياة، وفي كل حياةٍ تُنقذ، هناك بقايا أمل بأن هذا العالم لم يفقد إنسانيته تمامًا.
فصل الخطاب:
في غزة، لا يُقاس الصمود بالكلمات، لأنها تُعلِّمنا أن الجوع قد يُهزَم بالكرامة، وأن الإنسان حين يُحاصَر في جسده، تبقى روحه أوسع من حدود جلَّاديه.