رادار
لم يكن حريق سنترال رمسيس مجرد فاجعة أصابتنا بل اختبارًا فجائيا للمعدن المصرى الأصيل لن أتحدث عن القصور الحكومى، رغم أنه كان حاضرًا بل أتحدث عما هو أعمق كيف ينهض هذا الشعب فى قلب الكارثة.. وسط الدخان والنار ظهرت الشهامة، واشتعلت فى القلوب نخوة لا تموت شباب ينقذون أرواحًا لا يعرفونها، ووجوهًا لا تخشى الموت، بل تحتضن الحياة.. نحن شعب لا يكسر فى كل محنة، ندهش العالم لا بقدرتنا على البقاء فقط، بل بكرامتنا التى لا تحترق.. وبإرادتنا التى تنفض الرماد وتبدأ من جديد.. ليست الحوادث ما يعرفنا بل طريقة تعاملنا معها.. وفى مصر، لا تمر كارثة إلا وتولد معها ملحمة إنسانية جديدة، تثبت أن هذا الشعب رغم الألم لا يزال يحتفظ بقدرة نادرة على العطاء والتضحية.. ومشهد الحريق لم يكن استثناء، بل أحد أنصع الشواهد على أن الانتماء هنا سلوك متوارث يمارس فى أصعب الظروف.. فلا يمكن أن ننسى ذلك المشهد الأسطورى حين قطع أحد ضباط الحماية المدنية إجازته بمجرد علمه بوقوع الحريق، فانطلق بسيارته الخاصة إلى موقع الحادث، غير عابئ بالزى أو الإجراءات أو حتى راحته الشخصية فى مشهد خاطف، وقف فى منتصف الشارع يخلع ملابسه المدنية ويبدلها بزى الإطفاء فى ثوان ثم اندفع راكضا بكل ما أوتى من طاقة، ليلتحق بزملائه وسط النيران.. لم ينتظر نداء ولم يطلب إذنا فقط استجاب لنداء الضمير.
فى نهاية إحدى جولات الإطفاء وبين الدخان الكثيف الذى لا يزال يتصاعد، جلس ضابط شاب على الرصيف منهكا وجهه مغطى بالغبار والتعب لم يحمل بين يديه وجبة ساخنة، بل قطعة بسكويت صغيرة أخرجها من جيبه أكلها بصمت ليسد بها جوعه، ليستكمل عمله وسط اللهب.. لا كاميرات تلاحقه، لا تصفيق ينتظره. فقط حس الواجب وصبر الجنود الحقيقيين.. هذا المشهد، الذى ألتقطته عدسات بعض المارة، لم يكن مجرد لقطة مؤثرة بل صورة تختصر المعنى الكامل للشرف والبسالة والانتماء.. وفى الليلة نفسها بمطار القاهرة، وقف أحد المسافرين فى حيرة حين طلب منه دفع 600 جنيه ولم يكن يحمل سوى 500 فقط، أوضح أنه لا يحتاج أموالًا بالخارج، وإذا برجل لا يعرفه يمد له ويعطيه 170 جنيهًا قائلًا له وهو يبتسم: » ادفع وتوكل على الله » لا يعرف أسمه ولا ينتظر رد المعروف.. فقط فطرة الخير التى لا تغيب عن أبناء مصر.. هذه ليست مشاهد استثنائية، بل امتداد لسلوك شعب يعرف كيف يتكاتف فى الأزمات.. من توزيع المياه والطعام وقت انقطاع الكهرباء، إلى شباب الأحياء الذين ينظمون المرور أو يطفئون الحرائق بأيديهم، إلى أطباء وطلاب طب يعالجون المصابين فى الشارع، إلى أطفال يقدمون الماء، ونساء يصرخن لينقذن الأرواح من يسأل: هل ما زالت هناك قيم فى هذا الوطن؟ فليقرأ هذه المواقف.. مصر لا تزال تنبض بالخير، وأبناؤها لا يزالون يملكون قلوبًا عامرة بالولاء.
ما حدث فى سنترال رمسيس كان رسالة مضيئة وسط ضجيج اليأس تذكير بأن المصرى إذا شعر أن وطنه يحتاجه، نسى تعبه وجوعه وهمومه وهرول نحو الواجب.
الترابط ليس حلمًا بل حقيقة فى أرض اسمها مصر.. والعطاء ليس فضلًا، بل فطرة.. والانتماء لا يدرس، بل يمارس.
وللحديث بقية.. إن شاء الله
Email: [email protected]