مراجعات
عندما يكون التاريخ مرآةً للماضي، فلا يجب أن يُروى لمجرد «الحكاوي» و«التسالي»، بل ليكون عبرة للمستقبل، والاستفادة من تجارب مَن سبقونا، حتى لا يتكرر السقوط، ويُعاد إنتاج الكوارث ذاتها.. وإن بصورٍ جديدة.
إن الأمم التي تقرأ تاريخها بوعي، تستطيع بناء حاضرها بثبات، وتُخطط لِغَدِها بحكمة، بعيدًا عن رواية المنتصرين الأقوياء، الذين يقومون بسرد الأحداث من منظورهم، وتقديم أنفسهم كأبطال، بينما يُطمس أو يُشوَّه صوت المهزومين!
في سرديات التاريخ.. والواقع، لا نجد ظلمًا أبشع من تجاوز الفعل العدواني، و«إدانة الضحية»، وتحميلها مسؤولية الألم، ليصبح ظاهرة اجتماعية وسياسية وأخلاقية خطيرة، تتكرّر بصورٍ شتّى في صفحات الزمن، وتصل إلى أقسى تجلياتها في فلسطين المحتلة.. وفي معاناة شعوبٍ أخرى، تحت وطأة القهر الداخلي.
في تاريخنا الإسلامي كان الصحابي الجليل «عمار بن ياسر»، رمزًا للثبات في وجه الاستبداد، لكن المفارقة أنه حين «قتلته الفئة الباغية» في معركة صفين، وهو يقاتل في صف الخليفة «الإمام عليّ بن أبي طالب»، ضد «معاوية بن أبي سفيان»، الذي لم يجد قائد جيشه «عمرو بن العاص» صعوبة في قلب المعادلة بقوله لأنصاره: «قتله مَن أخرجه إلى القتال»!
بعد سنوات من مقتل «عمار»، تكررت المأساة بصورة أكثر دموية وبشاعة في كربلاء، حين خرج الإمام «الحسين بن عليّ»، رافضًا بَيْعة «يزيد بن معاوية»، ليُقتَل سبط النبي ومَن معه من آل بيته وأصحابه، بطريقة وحشية، ثم نجد مَن يُلقي اللَّوْم على حفيد الرسول: «لِمَ خرج، ألم يكن يعلم عاقبة الثورة»؟
هذا النمط من التفكير ـ الذي يُحمّل الضحية مسؤولية موته ـ مكّن الطغيان من الاستمرار قرونًا، وفتح بابًا واسعًا لتجريم المقاوم، وتبرئة الجلاد.. وكأن الثائر ضد الظلم يُصبح مذنبًا لأنه لم يصمت!
قياس خاطئ تكرر أيضًا حين ثار «العاصي» أحمد عرابي على استبداد الخديوي والاحتلال البريطاني، وحين قاد «الخارج عن القانون» عمر المختار المقاومة في ليبيا، ضد المحتل الإيطالي، و«الإرهابي» عبدالقادر الجزائري عندما باشر معركة التحرر في الجزائر!!
بكل أسف، الآن تتجسد ظاهرة «إدانة الضحية» في فلسطين المحتلة، لتنقلب الحقائق بوقاحة، حيث يُباد أهل غزة، وتُتهم المقاومة باستخدام المدنيين دروعًا بشرية، ويُجتاح الأقصى، ويُلام المقدسيون على «التحريض»، وتُبنى المستوطنات، بذريعة «الحق التاريخي»، ويُهَجَّر الغَزِيُّون قسرًا «حفاظًا على سلامتهم»، ويُهَرْول العرب إلى ذُلِّ التطبيع والاستسلام، ويقال سلامًا!!
أخيرًا.. إن «إدانة الضحية» ليست مجرد انحيازٍ ظالمٍ، بل قتلٌ ثانٍ للعدالة، وتشويهٌ للتاريخ، واغتيالٌ متعمَّد للأخلاق والإنسانية، لأنه وفق منطق «الإدانة» يصبح المواطن هو المسؤول عن فقره، والمسجون مسؤولًا عن اعتقاله، والمقتول عن مقتله.. في دورة ظلم متواصلة، تتغذى على الأكاذيب وتزييف الوعي وتشويه الحقيقة.
فصل الخطاب:
يقول الكاتب الروسي «أنطون تشيخوف»: «في المجتمعات الفاشلة ثَمَّة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية... وتظل الغالبية بلهاء على الدوام، ولها الغلبة دائمًا على العقلاء».