جاء حادث الطريق الإقليمى بمحافظة المنوفية صدمة جديدة تهز ضمير المجتمع، بعدما لقيت 19 فتاة من القاصرات مصرعهن فى حادث أليم، وهن فى طريقهن للعمل فى سن مبكرة لا يفترض فيها أن يحملن أى أعباء تتجاوز قدرات طفولتهن. لم تتجاوز أعمار هؤلاء الفتيات 13 أو 14 عاماً، وكنّ يقمن بأعمال شاقة يومياً من أجل إعالة أسرهن، فى صورة تختصر ملامح الفقر ومخاطر غياب شبكات الحماية الاجتماعية، وتعيد فتح الملفات المسكوت عنها بشأن تشغيل الأطفال والعمالة غير المنتظمة فى مصر.
رغم التقدم الملحوظ الذى شهدته الدولة المصرية فى ملف البنية التحتية، خاصة قطاع الطرق الذى حظى بأولوية فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، فإن الحادث الأخير يعكس خللًا لا يزال قائماً على مستوى الرقابة والسلامة والالتزام بمعايير الأمن على بعض الطرق، وهو ما يتطلب تدخلًا حكوميًا عاجلًا لاستكمال ما بدأته الدولة، لا سيما على الطرق التى ما زالت تشهد معدلات مرتفعة من الحوادث.
توجيهات الرئيس السيسى جاءت حاسمة عقب الحادث، بضرورة إجراء مراجعة شاملة للطريق الإقليمى وسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة والتطوير، وتوفير وسائل الإنذار والإرشادات المرورية، ومراقبة السرعة، وإزالة كل العوائق والمخالفات، حفاظاً على الأرواح. هذا التوجيه الرئاسى يجب أن يترجم إلى إجراءات ملموسة وسريعة من قبل الحكومة، لضمان عدم تكرار الكارثة.
لكن بعيداً عن البنية التحتية، يعكس الحادث أزمة أكثر عمقاً ترتبط بواقع آلاف الأطفال الذين يضطرون للعمل فى سن مبكرة نتيجة الفقر أو ضعف شبكات الرعاية، وهنا تكمن المأساة الحقيقية. هؤلاء الأطفال يفترض أن يكونوا فى مقاعد الدراسة، يمارسون حياتهم الطبيعية، وليسوا فى طريقهم إلى أماكن عمل محفوفة بالمخاطر، دون حماية أو تأمين، وبدخل لا يكاد يكفى لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم. هؤلاء الفتيات كنّ يتقاضين أجورًا زهيدة لا تتناسب مع الجهد المبذول ولا مع المخاطر التى يتعرضن لها.
هذه الحادثة يجب أن تدفع الدولة، بمؤسساتها كافة، إلى إعادة النظر فى منظومة تشغيل الأطفال، وتطبيق قانون العمل بحزم، وتفعيل الضمانات التى نص عليها لحماية القُصّر من الاستغلال، وتوفير بيئة عمل آمنة إن اضطرتهم الظروف للعمل، ولكن الأهم من ذلك هو العمل على منع هذه الظروف من الأصل، من خلال دعم الأسر الأكثر احتياجًا وتوفير سبل الحياة الكريمة لها، بما يغنيها عن إرسال أطفالها إلى سوق العمل.
وتبرز هنا أهمية الدور الذى يجب أن تضطلع به وزارة التضامن الاجتماعى بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى، فى الوصول إلى تلك الأسر وتمكينها اقتصاديًا من خلال برامج الحماية الاجتماعية، وتوفير فرص عمل حقيقية للبالغين، وإنشاء مشروعات صغيرة تساعد فى تحسين دخل الأسرة، وتجعل الطفل غير مضطر لترك مقاعد الدراسة من أجل العمل.
فى المقابل، تتقاطع مأساة هؤلاء الفتيات مع واقع العمالة غير المنتظمة فى مصر، وهى شريحة كبيرة تضم ملايين المواطنين الذين يعملون فى ظروف غير مستقرة، دون غطاء تأمينى أو طبى أو اجتماعى. الحادث كشف هشاشة وضع هذه الفئة، وأعاد التذكير بضرورة تفعيل أدوات الحماية التى نصت عليها التشريعات، وفى مقدمتها التأمينات الاجتماعية والتأمين الصحى والبرامج الطارئة التى يفترض أن توفر دعماً فورياً فى حال الإصابة أو الوفاة.
لا يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية أو حماية حقيقية للعمال دون اتخاذ خطوات فعلية نحو تسجيل كل عامل غير منتظم وتوفير حوافز لهم للانضمام للمنظومة الرسمية، فضلًا عن توعيتهم بحقوقهم القانونية، وتفعيل صندوق حماية العمالة غير المنتظمة الذى نص عليه قانون العمل، بما يضمن حقوقهم وكرامتهم حال تعرضهم لأى طارئ.
ومن هنا، فإن حادث المنوفية ليس مجرد حادث مرور عابر، بل جرس إنذار يوجب علينا جميعًا التوقف والتفكير بجدية. لا بد من حماية الطفولة من الاستغلال، وتكثيف الرقابة على طرق التشغيل، ووضع برامج تنموية واجتماعية تساعد الأسر الفقيرة، وتحول دون تسرب الأطفال من التعليم. كما يجب التحرك السريع نحو دعم العمالة غير المنتظمة، باعتبارها ركيزة أساسية من نسيج المجتمع، لا تقل فى أهميتها عن أى فئة أخرى.
إن الحادث المؤلم الذى فقدنا فيه زهرة من زهرات هذا الوطن، يجب أن يتحول إلى نقطة انطلاق لسياسات أكثر عدالة وإنصافًا، تضع الإنسان فى قلب معادلة التنمية، وتحقق فعليًا ما تصبو إليه الجمهورية الجديدة من كرامة وعدالة وأمان لكل مواطن على أرض مصر.