مراجعات
في صباح يومٍ، لم يكن مختلفًا عن سواه، خرجت 19 فتاة من بيوتهن، في معركة لقمة العَيْش.. ربما ضحكن في الطريق، وتبادلن أحلام المستقبل، وكتبن في هواتفهن رسائل، لأبٍ أو أخٍ، أو أمٍّ تنتظر عودتهن.. لكن ما لم يخطر في بال أحد، أن طريقًا قاتلًا على أطراف المدينة، قرر أن يكون نهاية كل شيء.
ما حدث ليست مجرد «حادثٍ مروريٍّ» ـ كما اعتدنا ـ بل موت جماعيٌ ببطء شديد.. موتٌ بدأ منذ سنوات، حين تم تعبيد طرق بلا تخطيط أو جودة، وترك الشاحنات تتجول بلا رقابة، وغضّ الطرف عن الفساد، ثم الاكتفاء بنعيٍ بارد وتعويض زهيد!
19 فتاة، يعني تسعة عشر حلمًا، ببيت، بوظيفة، بفرحة زفاف.. كلهن قُتلن في لحظة واحدة، بعدما اصطدمت سيارتهن بشاحنة تسير بسرعة جنونية، في طريق لا توجد فيه إشارات واضحة، ولا رقابة حقيقية.. والنتيجة تأخر سيارات الإسعاف، وجثث ظلت لساعات على الإسفلت، تنتظر من يرفعها، كأنها لا تنتمي لأحد!!
تلك الجثث لم تكن أرقامًا.. كانت بناتنا ضحية لموتٍ مجانيٍّ، ترك باب العزاء مفتوحًا، رغم أن الألم لا يُعزَّى، والدم لن يغسله الصمت، فهل تقدر أي كلمات على مواساة الضحايا.. وهل يُعيد أي خطابٍ رسميٍّ أو بيان عاجل الضحكة لصدر أبٍ مكلوم أو أمٍ مفجوعة؟
بكل أسف، في مصر، صار الحُزن عادةً، والاعتياد على الموت هو الجريمة الأكبر، فلا نعرف كيف نحزن كما يجب، لأننا مشغولون بالركض خلف الحياة، فيما الطرق تقتلنا بصمت؟!
إذن، ليس الحادث قضاءً وقدرًا فقط، فالقدر لا يُعَبِّد شوارعًا مؤهَّلة للموت، ولا يُغَيِّب ضمير المسؤول.. هي أرواح تم قتلها بإهمال مُتَعَمَّد، ورغبة واضحة في تجاهل كل صوتٍ يحذر من كارثة مُحَقَّقة!
أين المسؤولية السياسية والأخلاقية، وأين الرقابة، وأين خطط الدولة لحماية أبنائها.. لماذا نُحاسب دائمًا الضحايا الجنائيين، ونترك الفاعلين الحقيقيين، يُدوّنون التعازي، ويُلقون باللائمة على الحلقة الأضعف؟!
في حادث «كفر السنابسة» على «الطريق الإقليمي» بالمنوفية، لا يكفي أن تُشَكَّل لجنة تحقيق، بل يجب أن يُحاسب كل مَن أهمل، لأن المسؤولية الأخلاقية لا تسقط بتبرير، والمسؤولية السياسية لا تنتهي بإقالة متأخرة أو اعتذار هشٍّ، فموت 19 فتاة في عمر الزهور ليس حادثًا عابرًا، بل جريمة مكتملة الأركان.
أخيرًا.. حين يتجاوز الألم القدرة على الاحتمال، يتحوّل إلى سكون قاتل، ولذلك تبدأ العدالة حيث نتوقف عن النسيان، وأن يُعامل الناس كأحياء، لا كأرقامٍ تنتظر موعدها الأخير، وما الفاجعة الأخيرة إلا بداية لتصويب حقيقي، بأن نغضب، ونطالب، ونُذكّر، ونُحاسب، وأن تكون تلك الدماء الزكية بدايةً لتغيير لا يرحل مع انتهاء «التريند»، فالطرق ليست لقتلنا، بل لنعبر الحياة بسلام.
فصل الخطاب:
يقول الكاتب الأوروجواني «إدواردو غاليانو»: «الموت ليس هو المصيبة، بل أن نموت بلا سبب، بلا كرامة، أو ألا يشعر أحد أن غيابنا لم يوقظ شيئًا».