«يا خبر»
قبل عامين أتيحت لى فرصة قراءة بعض مؤلفات المؤرخ العسكرى الإسرائيلى البروفيسور يوآف جيلبر القائد السابق للواء المظليين الإسرائيلى والمستشار الأكاديمى بكلية القيادة والأركان الإسرائيلية وأستاذ التاريخ العسكرى فى جامعة حيفا وهو محارب سابق وأكاديمى إسرائيلى مرموق خدم بعد تقاعده فى مركز هرتسليا متعدد التخصصات ونشر العديد من الكتب والدراسات حول تاريخ إسرائيل، بعضها تناول جذور الصراع العربى الإسرائيلى مثل «تاريخ التطوع للجيش البريطانى»، «وطن جديد»، «جذور الزنبق»، «الشيوعية والنكبة»، وغيرها، أول ما ووقع فى يدى كان كتابه «حرب الاستنزاف المنسية» الذى صدر عام 2017 عن دار دفير وهى واحدة من أكبر وأقدم دور النشر فى الأرض المحتلة.
يتحدث الكتاب عن الخسائر التى تكبدها جيش الاحتلال الإسرائيلى فى حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية وتداعياتها، وهو الجزء الأول من ثلاثية للمؤلف مع نفس دار النشر «دفير»، تتناول الجيش الإسرائيلى فى السنوات ما بين نهاية حرب يونيه 1967 واندلاع حرب أكتوبر 1973، جاء بعده الجزء الثانى كتاب «الزمن الفلسطينى» عام 2018 تناول القضايا السياسية والعسكرية والعلاقات العسكرية بين إسرائيل والأردن وفلسطين، واختتم الثلاثية بالجزء الثالث كتاب «غطرسة القوة» عام 2021 ويتحدث عن الغطرسة الإسرائيلية التى نشأت بعد حرب 1967 بين القيادات الإسرائيلية، وأدت إلى هزيمتهم النكراء فى حرب أكتوبر 1973، وناقش أسباب الهزيمة، نافيًا اقتصارها على فشل الاستخبارات الإسرائيلية، وأكد جيلبر بما لا يدع مجالا للشك أن المصريين حطَّموا نظرية إسرائيل الأمنية.
بالمناسبة جيلبر كان عضوا فى لجنة «أجرانات» التى تشكلت لبحث أسباب هزيمة إسرائيل فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، وهو واحد من القلائل من القادة العسكريين السابقين الذين لا يكابرون ويكتبون الواقع دون تزويق أو تهويل أو تخفيف، ربما لأنه يحتكم دائما فى كتابته للتاريخ على قواعد وأسس البحث العلمى الدقيق باعتباره أيضا أكاديميا متخصصا فى التاريخ العسكرى وهذه حالة نادرة للشخصية الإسرائيلية.
اليوم تذكرت يؤاف جيلبر وكتبه الثلاثة سابقة الذكر, لاسيما كتابه الأول «حرب الاستنزاف المنسية» وأنا أبحث عن تفسير لموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو على إنهاء حالة الحرب التى استمرت 12 يوما مع إيران، بعد صواريخ تجاه إسرائيل وأخرى تجاه إيران وأسراب المسيرات من هنا وهناك والخسائر الفادحة لدى الطرفين فى البشر والحجر لاسيما الطرف الإسرائيلى.
وجه الاستغراب لدى من أن نتنياهو لطالما أعلن أنه عندما يدخل حرب لابد له أن يحقق أهدافها كاملة ولا مانع لديه من أن تطول المهم يحقق أهدافة وبغض النظر عن مدى دقة كلامه -وهو مشكوك فيه دائما- وبعيدا عن أن نتنياهو يواصل بالتوازى حربا دعائية فى الفضاء الإعلامى ويطلق المصطلحات الرنانة من عينة «نحن نغير الشرق الأوسط» و«حطمنا كذا وكذا...»، فمن يذاكر التاريخ العسكرى الإسرائيلى جيدا مثل يؤاف جيلبر يعطيك الإجابة بسهولة ووضوح.. يقول جلبير فى كتابه «حرب الاستنزاف المنسية» إن الجندى الإسرائيلى لا يقوى على حرب استنزاف طويلة، ويضرب مثالا بحرب الاستنزاف التى شنها الجيش المصرى ضد الجيش الإسرائيلى بعد نكسة ١٩٦٧ قال جيلبر نصا وهو لديه الأرقام والوثائق: «إن المصريين كبدوا إسرائيل خسائر فادحة فى حرب الاستنزاف وتم التعتيم عليها وإخفائها حفظا على السلم المجتمعى فى الداخل الإسرائيلى، وحتى لا يتم تعكير صفو المجتمع الإسرائيلى وكسر حالة الزهو التى كان يعيشها بعد نكسة 1967»، وتصورى الشخصى أن الإسرائيلى يكذب الكذبة ويصدقها، فصدق مثلا «أسطورة الجيش التى لا يقهر» وفى كتابه «غطرسة القوة» يقول جيلبر إن حرب «يوم الغفران»، وهى التسمية العبرية لحرب السادس من أكتوبر 1973 أثبتت فشلاً ذريعًا بسبب الافتقار الإسرائيلى إلى فهم التغييرات التى مرت بها الخصوم إلى جانب ظروف الساحة الجديدة.
هنا أعطانا جيلبر سببين قديمين حديثين يجعلان إسرائيل تنهى حربها، الأول أن الجيش الإسرائيلى ليس لديه نفس طويل ولا يقوى على حرب طويلة تستنزفه، والسبب الثانى أن الإسرائيلى حتى الآن تسيطر عليه كذبة غطرسة القوة فيظن أنه الأقوى والأفضل فى كل زمان ومكان، بينما يفشل دائما فى فهم التغييرات التى مرت بها الخصوم فى ظل ظروف متغيرة.
وأنت تفكر فى كلام يؤاف جيلبر يجب أن تستدعى شهادة رئيس أركان الجيش المصرى فى حرب أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلى التى يقول فيها أن الجندى الإسرائيلى بشكل عام لا يقوى على حرب طويلة ويصاب بالفزع عندما يجد زملاءه يسقطون فى المعركة، وهذا يؤثر على نفسيته.
أخيرا.. لو حسبنا الاستنزاف الكبير لجيش الاحتلال فى غزة على مدار 18 شهرا والخسائر الاقتصادية الكبيرة، والغضب الداخلى فى إسرائيل، كل هذا فى رأيى جعل نتنياهو ينهى الحرب مع إيران، تجنبا للمزيد من الضربات والخسائر، أما حديثه المكذوب الآن عن النصر، فهو ذر للرماد فى العيون.