لطالما كانت إسرائيل حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. منذ تأسيسها، تلقت دعمًا غير مشروط من الولايات المتحدة على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، حيث كانت واشنطن ترى في إسرائيل شريكًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق توازن قوى يخدم مصالحها في مواجهة التحديات الإقليمية، سواء من الأنظمة القومية سابقًا أو من الحركات الإسلامية لاحقًا. لكن التحولات الجارية في السياسة الإسرائيلية الداخلية، والتغيرات في أولويات الولايات المتحدة عالميًا، بدأت تطرح تساؤلات جادة حول مستقبل هذا التحالف: هل تبقى إسرائيل حليفًا موثوقًا أم أنها بدأت تتحول إلى عبء وربما إلى تهديد محتمل للمصالح الأمريكية؟
في السنوات الأخيرة، أظهرت إسرائيل بقيادة حكومات يمينية متطرفة ميولًا متزايدة للعمل الأحادي الذي يتجاهل أحيانًا التحفظات الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالعدوان على غزة والاستيطان في الضفة الغربية والملف النووي الإيراني. بداية بالتصعيد مع إيران وتوجيه ضربات استباقية ضد منشآتها النووية. فبالرغم من التنسيق مع واشطن، مثل هذه الخطوة قد تجر واشنطن إلى حرب لا تريدها، ما يجعل إسرائيل من كبار "صانعي الأزمات" لا من حلفاء ضبط الاستقرار.
إذ أن التصعيد المستمر مع طهران، سواء عبر العمليات السرية أو عبر الضربات المباشرة، يهدد بإشعال حرب إقليمية لا تتناسب مع الاستراتيجية الأمريكية التي باتت تفضل احتواء الصراعات بدلاً من توسيعها.
في الوقت ذاته، تضع السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين واشنطن في موقف حرج، حيث تُتهم الولايات المتحدة بدعم ممارسات تُقوض صورتها كمدافع عن حقوق الإنسان وتضعف قدرتها على بناء تحالفات أوسع في العالمين العربي والإسلامي.
إن إسرائيل لم تعد تكتفي بدورها التقليدي كحليف عسكري، بل بدأت تنسج علاقات متقدمة مع قوى منافسة لواشنطن مثل الصين وروسيا، خاصة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. هذا التمدد الإسرائيلي خارج العباءة الأمريكية يثير قلق واشنطن التي ترى أن تل أبيب قد تُسهم بشكل غير مباشر في تسريب تكنولوجيا متقدمة إلى دول تعتبرها الولايات المتحدة تهديدات مباشرة. وفي ظل التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، يصبح أي تعاون إسرائيلي مع هذه القوى بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء الأمريكية.
المفارقة أن استمرار الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل صار يضعف تحالفات واشنطن التقليدية في الشرق الأوسط. لأن الدول العربية، حتى تلك التي انخرطت في اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، بدأت تلمس حدود هذا التحالف ومدى تأثيره على مصالحها وأمنها القومي. إذا واصلت الولايات المتحدة الانحياز الكامل لإسرائيل على حساب قضايا عربية وإقليمية كبرى مثل القضية الفلسطينية، والآن الحرب على إيران، فإن ذلك قد يدفع بعض الحلفاء العرب إلى البحث عن توازنات جديدة عبر تعزيز علاقاتهم مع قوى مثل الصين وروسيا وتركيا، وهو ما قد يقلص النفوذ الأمريكي تدريجيًا في المنطقة.
إن التحول الإسرائيلي نحو مزيد من الاستقلالية ليس مجرد سلوك سياسي مؤقت، بل يبدو انعكاسًا لتحولات أعمق في طبيعة الدولة الإسرائيلية ذاتها، حيث تتسع الهوة بين القيم الليبرالية الأمريكية وبين السياسات القومية والدينية المتشددة التي تسيطر على المشهد السياسي الإسرائيلي اليوم. هذا التباعد قد لا يصل إلى حد القطيعة، لكنه قد يُنتج خلال السنوات القادمة نمطًا من العلاقات أكثر تعقيدًا وأقل انسجامًا، إذ باتت إسرائيل في الآونة الأخيرة مصدر تهديد واضح لمصالح واشنطن بدل أن تكون مجرد أداة لخدمتها.
في النهاية، لا يمكن الجزم بأن إسرائيل ستتحول رسميًا من حليف إلى تهديد مباشر، لكن المؤشرات المتراكمة ترسم ملامح مرحلة مختلفة في العلاقات الثنائية. مرحلة قد تفرض على واشنطن إعادة تعريف علاقتها بتل أبيب، ليس كضمانة دائمة للمصالح الأمريكية، بل كفاعل مستقل قد يغامر بمصالح واشنطن إذا تعارضت مع أولوياته القومية. في هذا السياق، لم تعد إسرائيل مجرد شريكًا مفضلًا، بل أصبحت قوة يصعب كبح جماحها والسيطرة عليها، ما يفتح الباب أمام خيارات صعبة وسيناريوهات معقدة لم تكن في الحُسبان.