دعاء طواف الوداع للحاج.. لحظات الرحيل بين الرجاء والدموع

مع لحظات المغادرة من أطهر بقاع الأرض، يعيش الحاج والمعتمر واحدة من أصدق المشاعر الروحية، حيث تختلط دموع الشكر بالحسرة على الفراق. وبين الطواف حول البيت العتيق ودعاء الانصراف، يكون "دعاء طواف الوداع" بمثابة ختام روحاني يدعو فيه العبد ربه أن يتقبل، ويطلب فيه العودة مرة أخرى إلى هذا المكان المبارك.
دعاء طواف الوداع كما ورد عن السلف
يُستحبّ للحاج أو المعتمر بعد إتمامه طواف الوداع أن يتوجه إلى ما يُعرف بـ"الملتزم"، وهو المكان الذي يقع بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود، وهناك يلتصق بجدار البيت، ويبدأ بالدعاء.
ومن أشهر الأدعية المأثورة في هذا الموضع ما نُقل عن الإمام الشافعي –رحمه الله– وهو:
"اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فَمُنَّ الآن، قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك.
اللهم فاصحبني بالعافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني".
هذا الدعاء يفيض بخشوع نادر، ويُجسّد تمامًا شعور العبد الذي عاش أيامًا بين رحاب البيت الحرام، يناجي ربه ويطلب منه القبول، ثم ينصرف بقلب مملوء بالأمل والخوف، متمنّيًا العودة مرّة أخرى.
ما صحة هذا الدعاء؟
بحسب ما أورده الإمام البيهقي في السنن الكبرى، فإن هذا الدعاء منقول عن الإمام الشافعي بإسناد حسن، وقد أخذ به السلف الصالح واستُحبّ الدعاء به عند طواف الوداع، خاصة في الملتزم، حيث يُقال إن الدعاء فيه مستجاب بإذن الله.
المصادر: [البيهقي، السنن الكبرى، باب الدعاء عند الملتزم].
هيئة الدعاء وآدابه
الدعاء في طواف الوداع لا يتم بشكل عشوائي، بل هناك آداب وهيئة يُستحب الالتزام بها، ومنها:
الوقوف عند الملتزم: حيث يُلصق الحاج صدره وبطنه بجدار الكعبة، ويضع يده اليمنى مما يلي باب الكعبة، واليسرى مما يلي الحجر الأسود، متجهًا بقلبه إلى الله.
افتتاح الدعاء وختمه: يُستحب أن يبدأ بالدعاء بحمد الله والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي ﷺ، ويختم الدعاء بنفس الطريقة.
عدم صرف البصر عن الكعبة: يُفضل للحاج أن يظل ناظرًا إلى البيت الحرام حتى يغيب عنه من بعيد، تعظيمًا له.
منع أخذ شيء من الحرم: لا يجوز أخذ شيء من تراب الحرم أو أحجاره أو أي شيء مادي منه، لما في ذلك من تعدٍّ على حرمة المكان.
شرب ماء زمزم: بعد أداء الدعاء، يُسن للحاج أن يذهب لشرب ماء زمزم بنية الشفاء والقبول، كما فعل النبي ﷺ.
المرأة في حالة الحيض أو النفاس: يجوز لها الدعاء من باب المسجد دون دخول، إذا كانت لا تستطيع أداء الطواف، وتدعو بما تشاء، ويُرجى لها الأجر ذاته.
أهمية هذا الدعاء في الوجدان الإسلامي
دعاء طواف الوداع لا يُعد فقط ختامًا للمناسك، بل هو لحظة وجدانية خالصة، يتمنى فيها العبد أن يكون قد وُفّق في حجه أو عمرته، ويتوسل فيها إلى الله أن يُحسن خاتمته كما أحسن له أداء المناسك.
كما يُعد الدعاء عند الملتزم من أرجى مواطن الإجابة، إذ روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"الملتزم ما بين الركن والباب، لا يلزم أحد بشيء يدعو الله به إلا استُجيب له"[البيهقي، السنن الكبرى].
يترك الحاج والمعتمر بيت الله بعد طواف الوداع، لكنه يخلّف خلفه دعاءً، ودموعًا، وشوقًا للعودة. وقد يكون دعاء الوداع هو بداية رحلة جديدة من القرب، يحمل فيها العبد أثرًا من مكة في قلبه، وعهدًا جديدًا مع الله.