مراجعات
عندما تمر على الإنسان لحظات أليمة، يشعر أن هذه الدنيا لا تساوي شيئًا.. ربما بسبب موقفٍ ما، أو حدث غيَّر مجرى تفكيره وحياته، ليكتشفها على حقيقتها التي كان يحاول تجاهلها، فيزداد يقينًا بأنها لا تستحق كل ما يفعله من أجلها!
لعل من من إحدى عجائب الحياة أنها مضبوطة على تقويمين مختلفَيْن ومتناقضَيْن تمامًا.. الأول يمنح هبة الحياة، والآخر رجوع الأمانة إلى بارئها.. لحظة يُولد فيها الإنسان ويُبصر النور، ليبدأ دورة الحياة بكل تجاربها وتفاعلاتها وصخبها، وتستمر ـ مؤقتًا ـ إلى حين، وأخرى تتوقف فيها عقارب الساعة عن الدوران، إيذانًا بحياة أخرى لا منتهى لها.
يقينًا، مهما طالت أعمارنا، فإنها قصيرة جدًا بالنسبة إلى الحياة الأبدية، وكل إنسان يُدرك تلك الحقيقة، لأن الموت «يقين» لا شك فيه، ولا فرار منه.. إن آجلًا أو عاجلًا، ولابد منه في آخر المطاف.
لكن أكثر ما يجزع النَّفس البشرية، أن هذا اليقين «الموت» يأتي بغتة، من دون وداع.. ورغم أنه نهاية حتمية، إلا أن ما يجعله «مزعجًا»، هو تسلله خِلسة ليختطف منَّا أعزاءنا وأحبابنا، ويجعلنا نعيش وجع الفقد وألم الفراق.
هذا «الفقد» نعتبره كلمة صغيرة لا تُوفي حجم الألم الذي تزرعه في القلوب، ولكن حين يكون الفقد «أمًّا»، فإن الحروف كلها تقف عاجزة، وتتلعثم أمام ذلك الحزن النبيل، كما تنكسر اللغة على أعتاب الوجع.
عندما ترحل «الأم» ينكسر شيء عميق في داخلنا، وبالتالي لن نكون كما كنَّا، ولن تعود الحياة كما كانت، لأن كل شيء أصبح ناقصًا.. حتى الفرح، إن مرَّ سيمرُّ خجولًا وعابرًا، كأنه يعلم أن «الأم» باتت غير موجودة لمشاركة تلك الفرحة.
«الأم» ليست مجرد شخص، بل هي وطن يحتوينا، ومأمن دافئ لا تُغلَق أبوابه، ودعوة صادقة تسبقنا حيث نذهب، وحنانٌ لا يذبل مهما كبرنا.. هي التي تُشعل النور في ليالينا المظلمة، وتُطبطب على أرواحنا حين تنكسر، وبرحيلها نصبح مثل غصن اقتُلعت جذوره، واقفًا.. لكنه ميت.
أكتب تلك الكلمات وأنا أبحث عن صوت أمي في زوايا البيت.. عن دعائها الذي كان يحيطني، حتى وأنا لا أعلم.. أكتب الآن كي لا أنسى، وكي لا ينسى القلب أن هناك امرأة عظيمة اسمها أمي، أعطتني كل شيء وَمَضَت.
إن الموت لا يوجع الميت، بل يوجع من بقي.. وأنا من بقي، أمشي في الحياة بظلها، أستعيد ضحكتها حين تضيق الدنيا، وأستند على ذاكرتها حين أتعب، لأهمس لنفسي: «كانت أمي لتفهمني»، وأبكي بصمت، لأن هذا الفهم رحل معها.
أخيرًا.. رغم كل شيء، يبقى في القلب رجاء، أن تكون روحي قد رَدَّت جزءًا يسيرًا من الجميل، ولو ببعض الدعاء، كما أرجو أن تكون أمي في مكانٍ يليق بها، بعيدًا عن الألم والفقد، فالأمهات لا يليق بهن إلا الجنة.
فصل الخطاب:
«بين الحين والآخر، يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات.. والحياة ماضية في طريقها، حيَّة متدفقة فوَّارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه».