رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

 


"السلام ليس مجرد كلمة بل هو عمل مستمر يتطلب الحكمة والشجاعة." نهرو  

تتسارع الأجندات الدولية كسفن في محيط هائج، فيما تبقى الدبلوماسية المصرية كربان خبير يمسك بدفة السفينة بيد ثابتة وعقل متقد..وكما يقال، " رأس الحكيم تصنع جسد قوي"، فقوة الوزارة تبدأ من قيادتها. 
وهنا، يصعب الحديث عن الخارجية المصرية اليوم دون التوقف عند ظاهرة وزير الخارجية بدر عبد العاطي، إنه الرجل الذي يعاد تعريف مفهوم "ساعات العمل". يتنقل بين العواصم وكأنه يمتلك مفتاحاً سحرياً للزمن، ويجري المكالمات والاجتماعات بوتيرة تذهل المراقبين. لقد سمعت أكثر من مرة عبارة متداولة: "بدر عبد العاطي يعمل ٤٨ ساعة في ٢٤ ساعة!". لتسأل نفسك : متى ينام؟! حركته الدؤوبة في ملفات شائكة كأزمة غزة وغيرها، تجعلك تتأكد أن الدبلوماسية المصرية هي عمود فقري صلب ووسيط قوي في المنطقة.  

وإذا أردت نموذجاً لدبلوماسية متجذرة في التاريخ، صلبة في الحاضر، ومتطلعة للمستقبل بثقة، فلا تنظر أبعد من الخارجية المصرية. قوتها ليست وليدة اليوم، بل هي إرث متراكم عبر العصور، قوامه الأساسي هو الكفاءة، وليس مجرد النسب أو الوساطة.  

الكفاءة وحدها تصنع الفارق  

الخارجية المصرية من الوزارات القليلة التي حافظت على معيارٍ مقدس وهو "الكفاءة" وحدها هي مفتاح الانضمام إليها. واجعلني أقص عليك موقفين يوضحان ما أعنيه: أولاً قصة لزميلتي تتحدث ٦ لغات، وتربت في بيت دبلوماسي عريق (جدها ووالدها سفراء لمصر سابقاً)، وتمتلك مؤهلات استثنائية حيث عملت في شركات عالمية ومراكز بحثية دولية رغم صغر سنها. وعندما سألتها لماذا لم تلتحق بالخارجية قالت لي: "أخشى اختبارات الخارجية!". هذا الخوف ليس ضعفاً، بل دليل على أن الاختبارات صارمة لدرجة تستبعد معها "الواسطة" حتى أبناء السفراء أنفسهم رغم كفاءتها الباهرة يخشون منها.

والقصة الثانية لمستشار من عائلة معروفة في السلك القضائي والدبلوماسي في مصر، إلا أنه دخل اختبارات الخارجية ٣ مرات ولم ينجح، ليذهب في المرة الرابعة متسلحاً أكثر بالعلم والمعرفة متخذاً من خبرات المرات السابقة ونضجه مع الزمن فرصة للثقة بالنفس، لينجح في المرة الرابعة بمشيئة الله ومجهوده.  
وهذا يوضح عقلية الاختيار في الخارجية المصرية: لا مكان هنا "لأهل الثقة" على حساب "أهل الخبرة"... هي مؤسسة لا تعرف إلا لغة الجدارة. .المعيار هو العقل المتقد، والرؤية الثاقبة، واللغة السليمة، والثقافة الواسعة، والأخلاق الرفيعة. يتجسد هذا المعيار الصارم في اختبارات القبول التي تعد من أصعب الاختبارات التنافسية، وهي حاجز لا يتخطاه إلا الأجدر فعلاً، وهذا هو سر القوة المتوارثة في تاريخ الخارجية المصرية. 
هذه هي الوصفة السرية: اختيار من ينتمون لمصر "هواءً وعشقاً"، مستعدين للتضحية بكل غالٍ في سبيل رفعتها.   
لذا عندما أقول إنها من الوزارات القليلة أو الوحيدة في مصر التي لا تعرف الوساطة، فأنا أقولها عن تجارب لمستها بنفسي. نعم، قد تكون لديك واسطة ومن عائلة لها تاريخ، ولكن هذا وحده لا يكفي.  

ومن عناصر قوة الخارجية المصرية أيضاً نظام التدريب الدبلوماسي المصري الذي يدمج الأكاديميا مع الميدان. عبد العاطي نفسه بدأ سكرتيراً ثالثاً في سفارة مصر بتل أبيب (1991-1995)، ثم صقل مسيرته عبر محطات في طوكيو وواشنطن وبروكسل، قبل أن يصبح سفيراً لألمانيا ثم وزيراً.  

وبتشريح أسبوع واحد في حياة عبد العاطي نرى أنه قدم نموذجاً لدبلوماسية "البركان النشط". ففي الأسبوع الأول من يونيو نرى أنه شارك في اجتماعات اللجنة الوزارية العربية-الإسلامية حول غزة في عمان.
والتقى المبعوث الأممي لليمن، وأجرى اتصالات مكثفة مع مسؤولي البيت الأبيض حول وقف إطلاق النار، واستقبل وزير خارجية بنين لعقد مشاورات سياسية تناولت سبل دعم العلاقات الثنائية بين مصر وبنين والتحديات التي تواجه القارة الإفريقية.  
وفي نفس الاسبوع  يعمل على شبكة علاقات كونية؛ حيث استقبل وزير خارجية إيران، ومبعوث الصين الخاص للشرق الأوسط، ووزير خارجية الهند، وتلقى اتصالات من نظيرته الأسترالية ووزير خارجية اليونان.  
وفي الوقت ذاته يسعى إلى الدبلوماسية الاقتصادية كأولوية؛ ففي بروكسل ناقش مع المفوض الأوروبي صرف حزمة تمويل بقيمة 4 مليارات يورو لمشروعات الطاقة والنقل في مصر، وطرح فكرة التعاون الثلاثي (مصر-أوروبا-إفريقيا) لتنفيذ مشروعات تنموية بالقارة.  

هل تتخيل كل هذا يتم في أسبوع واحد فقط؟ فالعمل في الخارجية ليس وظيفة عادية. إنها حياة تُقاس بالبعثات الطويلة بعيداً عن الأهل والأوطان، وبالسهر على متابعة الأزمات عبر التوقيتات المختلفة، وبالضغط النفسي الهائل لتحمل أعباء صورة مصر ومصالحها الحيوية. إنها تضحية مستمرة بالوقت الشخصي، بل وبأشياء ثمينة مثل التواجد مع الأسرة في أهم لحظاتها. هذا الفداء الصامت هو الوقود الخفي الذي يحرك آلة الدبلوماسية المصرية، ويحافظ على جذوة ولائها متقدة عبر العقود.  

رفض السلاح..واختيار العقل

تعتمد مصر في سياستها الخارجية على التعددية الاستراتيجية؛ فهي تسعى لعلاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على ثوابت الأمن القومي، وذلك من خلال دبلوماسيين يفهمون لعبة الأجندات الدولية. 
واتذكر هنا دبلوماسية "المقهى"، والتي كان السفير إبراهيم يسري أسطوري فيها، حيث تبنى الحلول على طاولات القهوة قبل قاعات المؤتمرات، و لعب دوراً بارزاً في تعزيز الدبلوماسية غير الرسمية من خلال استخدامه لأسلوب الحوار المفتوح واللقاءات غير الرسمية التي تُبنى على طاولات القهوة، لجمع مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية لتقريب وجهات النظر وحل الخلافات بعيداً عن الرسمية الصارمة.

وبالنظر الى ملف المياة ، خاضت الدبلوماسية المصرية حوالي ٤٣ جولة في أزمة سد النهضة خلال ٣ سنوات وما زالت تعمل بلا كلل، وذلك للحفاظ على حقوق مصر المائية..ووقف عبد العاطي في الأمم المتحدة مصرحاً: "مصر لن تفرط في قطرة ماء واحدة من النيل"، كانت الصياغة حادة كالسيف؛ لأنها صادرة عن دبلوماسي خبير بملفات المياه والقانون الدولي، لا مجرد مسؤول، حيث المواقف لا تساوم.  

فيما اتخذت السياسية المصرية موقف مفاجئ  في أحداث البحر الأحمر ، فرغم السفن المتوقفة بسبب الحوثيين، و أنين المسؤولين بسبب الخسائر بالملايين يومياً بسبب توقف حركة الملاحة في قناة السويس ، فوجئت بالقرار المصري برفض الانضمام لتحالف عسكري بحري لضرب اليمن! هنا أدركت أن دبلوماسيتنا المصرية كالنيل تبدو هادئة السطح لكنها تحفر مجراها بعمق بشكل دبلوماسي، وهنا نتذكر  ما قاله غاندي "ليست العظمة في الانتصار بالسلاح دائماً، بل في انتصار العقل على إغراء الحرب" 

نعم، خسائرنا الاقتصادية فادحة.. لكن الاشتراك في تحالف قصف اليمن ليس حلاً، دبلوماسيتنا تعلمت من تاريخ طويل: الحرب تولد أشباحاً لا تموت. لذا تصر الدبلوماسية المصرية أن تنقل رسالة إلى العالم وهي: "كفى استباحة لأرض العرب باسم حمايتها!.. ونرفع علم حق الشعوب في الدفاع عن نفسها ضد الاحتلال، كما في فلسطين".  

هذه هي مصر التي لا تتغير..قلعة الكفاءة وحصن الحكمة الذي يرفض إطلاق الرصاصة الأولى، في عالم يقدس القوة العمياء...دبلوماسيتنا المصرية قوية لأنها ببساطة تختار الأقوياء الأكفاء. 
دبلوماسيتنا قوية لأن قادتها في الخارجية عمالقة الدبلوماسية العربية وذات ثقل دولي فمنهم عمرو موسى وأحمد أبو الغيط وأحمد ماهر ومحمد العرابى ونبيل العربى ونبيل فهمى وسامح شكرى وصولا للوزير بدر عبد العاطي،  جميعهم يجسدون أسمى معاني التفاني والعمل الدؤوب.

دبلوماسيتنا قوية لأن رجالها ونساءها يقدمون التضحية بنكران ذات نادر، إنها مؤسسة تدرك أن مستقبل مصر في المحافل الدولية يبنى بعقول وسواعد أبنائها ، لا بوساطات أو محسوبيات. وفي هذا الصرح الشامخ، تظل الكفاءة هي التاج، والتضحية هي الإكليل.  

ويقول الشاعر أحمد شوقي، أمير الشعراء، كلماته التي تعبر عن روح التضحية هذه:  
وَلَوْ أَنَّنِي فَدَيْتُ الرُّوحَ جِدَّ مُصَدِّقٍ  
بِمَا قُلْتُ لَمْ أَبْخَلْ بِالرُّوحِ وَالْعِرْضِ  
فَدَاءٌ لِوَطْنِيَ أَنْ يَحْيَا وَيَزْدَهَرَ بِهِ  
فُدُومًا جَمِيعُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ الْفِدْءِ