مراجعات
من الطبيعي أن كل شيء إيجابي يجعلنا نشعر بالسعادة، ومن المنطقي أيضًا أننا نتألم ونحزن لكل أمر غير مرغوب في حدوثه، رغم أنه قد يحمل في حقيقته معاني ودلالات يصعب فهمها في حينها، ولا نُدرك مدلولاتها إلا متأخرًا.
وعلى وَقْع تسارع وتيرة الحياة وصخبها، يمكننا بسهولة رَصْد سلوكياتٍ سلبيةٍ عديدة، طَغَت على مفردات حياتنا اليومية، أو في تعاملاتنا الإنسانية، لتنعكس بشكلٍ ما، على شخصياتنا واهتماماتنا.
ربما كان ذلك الإيقاع السريع للحياة، سببًا مباشرًا في ازدواجيةٍ وفوضى، ضربت المفاهيم والقيم، حتى أصبحنا ضحايا تكييف علاقاتنا مع الآخرين، سواء أكان بالتقارب والتباعد.. أو حتى بالقطيعة!
لذلك قد نختار الصمتَ عزوفًا عن مشادَّات نُقَدِّرها إهدارًا للوقت بلا معنى، واستهلاكًا لرصيد المحبة دون جدوى، إلا أن يكون صمتًا عن حقٍ متيقنٍ، أو أن نلجأ إلى التجاهل، لأنه لا شيء بالفعل يستحق الاهتمام.
أحيانًا نتردد في «اعتزال ما يؤذينا»، واتخاذ قرار حاسم وفوري، بالابتعاد عن أشخاص لا يستحقون اهتمامنا أو مشاعرنا.. بعد أن فقدوا قيمتهم في نفوسنا، وسقطوا من أعيننا.
لذلك، يجب أن ننأى بأنفسنا عن مُنْتَهِكي مشاعرنا، الذين يستسيغون الكذب، ويُتْقِنون قَلْب الحقائق.. أو مَن كانوا مصدر طاقة سلبية و«إزعاج»، لأن طردهم من حياتنا رحمة لنا، وهنا يكون «الابتعاد» مطلوبًا، أو ضروريًا، مع مَن يدفعوننا إلى اليأس والإحباط، أو أولئك الكاذبون الأدعياء.. وغيرهم، من «محدثي النعمة»، أصحاب النفوس المريضة والقلوب الحاقدة والنوايا السيئة.
إذن، عندما تُصادف تلك النوعية من «البشر»، لا تنزعج كثيرًا عندما تتخلص منهم، لأن «الابتعاد» حينئذ يكون فرض عَين.. ولا مجال هنا لحديثٍ عن مراعاة الذوق مع فقراء الأدب.
إن مأساتنا تكمن في «مخالطة» أصحاب وجوه متعددة وأقنعة زائفة، لا نستطيع التثبت من إخلاصهم وولائهم أو وفائهم وانتمائهم، أو حتى التأكد من صدق مشاعرهم ونواياهم ومحبتهم.. حتى فقدنا القدرة على أن نميز الخبيث من الطيب!
لقد أصبحنا بالفعل نعيش في عالم «متوحش»، يتصدره أدعياءَ كُثُر.. هؤلاء فقط، عندما نستشعر حقدهم وحسدهم، لن يُجدي معهم اللَّوم والعتاب، أو الاكتفاء بالقول: «لقد نفد رصيدكم من المحبة»، بل يكون الابتعاد وجوبيًا، إيذانًا بهجرهم إلى غير رجعة.. وبالطبع سنكون في أفضل حالٍ من دونهم.
عندما تقول الحكمة: «في حديقة أيامك، لا يؤلمك كثيرًا أن تجد بعض الحشائش الضارة التي أدْمَت قدميك»، فإن «إبعاد» مثل هؤلاء من حياتنا ضروري، احترامًا لأنفسنا، وتقديرًا لذواتنا، وراحة لنفوسنا وضمائرنا، خصوصًا عندما نصل لدرجة من عدم الاحتمال.
أخيرًا.. ربما يكون التجاهل والهجر ثم الابتعاد، أنجع الحلول، لننأى بأنفسنا من الانزلاق إلى تَبِعات غير محمودة العواقب، أو التمادي في الإحسان والتسامح والعفو، مع هؤلاء الذين قد يعتبرونه ضَعْفًا، فيزدادوا إثمًا وتجاوزًا.
فصل الخطاب:
يقول الروائي والفيلسوف «فيودور دوستويفسكي»: «لا يبقى في الذاكرة سوى ما نريد نسيانه».