قد تظن من الوهلة الأولى أن عنوان المقال يحمل نوعاً من الهزل ، في أيام لا تحتمل الهزل ، لكن ما يفعله ترامب وما ينتوي فعله ، مع مصادفة التاريخ ،حملت شرعاً وليس سفاحاً هذا الإسقاط ، حيث تم إنتاج فيلم «عنتر شايل سيفه» بطولة عادل إمام 1983 ، وهو العام الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي « ريجان» لأول مرة عن مشروعه الدفاعي «حرب النجوم» ، وأعاد إحياءه ترامب الآن تحت مسمى «القبة الذهبية» ، وأعتقد أن الجمهور تابع بشغف هذا الفيلم القديم ، قبل أن يتابع العالم فيلم ترامب الجديد ، .. وعودة إلي الجدية فليكن العنوان إذا أردت «عسكرة الفضاء بين الوهم والإبتزاز» ، .. ولنبدأ الجد من حيث بدأ ترامب الهزل .
بينما يجتمع الكرادلة لاختيار بابا الفاتيكان الجديد ، نشر «ترامب» صورته بالذكاء الإصطناعي ، يرتدي ثوبًا أبيض ، وقلادة صليب ذهبية ، وقبعة أسقف، مع توجيه إصبع السبابة نحو السماء ، في إشارة دفعت البعض للاعتقاد بأن «ترامب» يرغب في منصب البابا ، أثار هذا «المزاح البايخ» الذي لا يُحتمل من رئيس دولة عظمى ، استياء 1.4 مليار يتبعون الكنيسة الكاثوليكية في العالم ، قبل أن نفهم مؤخراً إشارة ترامب بتلك الصورة ، بعد انتخاب «روبرت فرنسيس بريفوست» ليصبح خليفة البابا فرنسيس ، ليصبح أول أمريكي يتولى هذا المنصب في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ، ويدخل معه ترامب عالم التنجيم بالكشف الضمني عن هوية البابا قبل انتخابه ! .
بعد 72 ساعة تقريباً من تلك الصورة ، فاجأنا ترامب بنشر صورة أخرى له بالذكاء الإصطناعي أيضاً ، مفتول العضلات ،حاملاً سيف «السيث الأحمر» ، سيف قوى الشر في سلسلة حرب النجوم المعروفة ، ثم يعلن للعالم بعدها عن مشروع «القبة الذهبية» المستوحى من «القبة الحديدة» للكيان المحتل ، ويهدف المشروع إلى حماية الولايات المتحدة من الهجمات الصاروخية التي يمكن إطلاقها من الأرض أو الفضاء ، وأعلن «ترامب» أن تلك «القبة» ستكون جاهزة للعمل بنهاية ولايته الممتدة لأربع سنوات قادمة ، السؤال هنا : ما الجديد وما القديم في هذا المشروع وما تبعاته وما هي أهدافه ؟
الجديد أن ترامب بدأ يتعامل مع العالم بلغة الإشارة ثم التشويق ثم الإثارة ، مثلما فعل «عنتر» في فيلم «عنتر شايل سيفه» ، مع الإحترام الشديد لعنتر ، الذي ذهب إلى بلاد الخواجات شاهراً سيفه ، ليجد نفسه متورطاً بالمشاركة في تصوير أفلام إباحية .. والساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب !
القديم في طرح ترامب لعسكرة الفضاء ، أن الرئيس الأمريكي «ريجان » أعلن في نهاية خطاب ألقاه 1983 ، عن استراتيجية جديدة تتعلق بوضع الأمن القومي الأمريكي ، مشروع قد يبدل مجرى التاريخ ، ويقلب العالم رأساً على عقب ، وقال : «حتى لو نجحنا في تحقيق توازن نووي مستقر ، فإننا سنبقى تحت ظل شبح الرد الانتقامي ، ونحيا في جو من التهديد المتبادل ، وهذا وضع مؤلم للبشرية .. لقد تداولت مطولاً مع مستشارى الرئيس ومن ضمنهم هيئة الأركان المشتركة ، وأيقنت أن هناك وسيلة تؤمن استقراراً .. سنبدأ بأبحاث علمية بهدف القضاء ، عبر تدابير دفاعية ، على التهديد المرعب الذي تجسده الصواريخ السوفيتية ، انني واع تماماً إلى المهمة ضخامة هذه المهمة ، وقد لا تتحقق قبل نهاية هذا القرن ، ولكن المستوى العالي الذي بلغته التكنولوجيا حالياَ يبرر تفاؤلنا بالنجاح » .
بهذا الخطاب كما يقول« بيير غالوا» في كتابه «حرب المائة ثانية ،الولايات المتحدة وأوروبا وحرب النجوم ، ترجمه عن الفرنسية اللواء جبرائيل بيطار ، الطبعة الأولي 1988 »، أن الرئيس ريجان ، بهذه الكلمات ، رضي كافة الأمريكيين تقريباً من اليسار الديمقراطي حتى أشد المحافظين صلابة ،مروراً بأنصار السلام وعلماء البيئة ورجال الدين.
كانت المعارضة على مشروع « ريجان» الدفاعي متعددة ، فالمشروع بالنسبة للبعض غير قابل للتحقيق ، في حين يراه البعض الآخر باهظ التكاليف ، ويعتقد آخرون أن بإمكان الإتحاد السوفيتي توفير وسائط مضادة للتقنيات الدفاعية الأمريكية التي قد تصل إليها أفضل الأدمغة الأمريكية ، وتم التوحد ضد عسكرة الفضاء باعتبارها عملاً لا فائدة منه ، ويشكل تحدياً لا مبرر له و مناف للمنطق ، واعتقد المعارضون وقتها أن القدرة النووية نجحت في المحافظة علي السلام طيلة بضعة عقود سابقة ، وستحافظ عليه لفترة طويلة لاحقة ، ومن الأفضل للولايات المتحدة ، أن تتمسك بتلك الإستراتيجية التي أثبتت فعاليتها عملياً .
مع مرور الوقت نجح «مشروع ريجان» في استقطاب نسبة كبيرة من الرأي العام الأمريكي ، وتم إعادة انتخاب «ريجان» لولاية ثانية ، بعد التأييد الذي ابداه الرأي العام دعماً للاستمرار في تنفيذ هذا المشروع ، الذي أطلقت عليه وسائل الإعلام «حرب النجوم» ! ، .. نجح ريجان ودُفن المشروع ، حتى أخرجه ترامب من قبره مرة ثانية بعد خمسة عقود تقريباً بإسم « القبة الذهبية» ، ربما في محاولة لإعادة شعبيته التي فقدها بعد فوضى قراراته وسياساته المُدمرة .. فالمشروع واحد والأهداف واحدة ! .
السؤال الذي يعيد إحياء نفسه من جديد : الولايات المتحدة تريد تحصين نفسها .. ماذا يفعل الآخرون ؟ ، الإجابة عن هذا السؤال تتمثل في تقسيم الآخرين من حيث القوة ، الأول عليه دفع الجباية والرضوخ لسياسات ترامب طلباً للحماية تحت تلك «المظلة الذهبية»، الثاني : الحلف المناهض للعجرفة الأمريكية ، القادر على الجلوس معها رأساً برأس ، وسيعمل جاهداً خاصة الصين وروسيا ، إلى خرق تلك القبة والتزود بأسلحة أكثر فتكاً ودماراً ، لتحافظ على توازن القوى بينهما ، وهناك آخرون «لاحول لهم ولاقوة» ، فقط مجرد رقم في تلك المجرة ، أصوات لا قيمة لها ، مسخرون للإبتزاز والجباية ، مجرد هامش خارج حسابات تلك اللعبة ، مع الإعتذار للهامش !.
الخلاصة : إذا كانت الولايات المتحدة من خلال مشروع «ريجان ـ ترامب» تريد إمتلاك الدرع الواقي وحماية أراضيها من الصواريخ خاصة التي تحمل رؤوساً نووية ، لجعل ما يملكه الآخرون من تلك الرؤوس أشبه «بكرات البُمب» في الموالد والأعياد ، فإن الدول التي لديها مخزون نووي لن تسمح بذلك أبداً ، خاصة ، أن ترامب ومستشاريه وخبراءه يعلمون، أن إجمالي المخزون العالمي من الرؤوس النووية يقدر بنحو 12121 رأسًا حربيًا ، منها 9585 رأسًا حربيًا جاهزة للاستخدام المحتمل ، حسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام .
في النهاية : ربما تصبح « القبة الذهبية» مشروع ترامب القادم لحلب مزيد من الحلفاء ، واستنزاف موارد من يريد حماية ماما أمريكا من العدوان « الروسي ، الصيني ، الإيراني أو ... أو ..... » الأقواس مفتوحة لتوسيع قاعدة الحلب والاستنزاف ، في ظل توترات عالمية ، وكابوس من التهديد المستمر علي يد دول تتظاهر بالسلام ، وكانت أول من استخدم السلاح النووي دون أي اعتبارات أخلاقية.
أخيراً : مهما كانت النوايا التي تحيط بهذا المشروع القديم الجديد ، من ريجان إلي ترامب ، من حرب النجوم إلي القبة الذهبية ، ومدى إمكانية تنفيذه من عدمه ، تبقى الحقيقة المرة ، أننا كعرب خارج هذا السياق كله ، فشلنا في منع حرب الإبادة ضد غزة ، فشلنا في حماية أهلها من القتل والدمار والتهجير، فشلنا في ردع الكيان المحتل عن جرائمه وإجرامه ، فشلنا في الحفاظ على أنفسنا من ابتزاز ترامب وأعوانه .. ولابد من إيجاد حل للخروج من هذا الفشل.
حفظ الله مصر من كل سوء .
[email protected]